مفهوم كلمة (المحراب)

إن كلمة (حرب) الحاء، والراء، والباء، تدلُّ على تأرجح شديد وَسَعَة، مكرّرة منتهية بتجمُّع متوقّف، وظهر ذلك في صورة اختلاف فريقَيْن، واقتتال بينهما؛ وذلك بتأرجح العلاقة الاقتتالية بينهما، وتبادل العنف، والضرب، بصورة مكرّرة مُنتهية – أخيرًا – بتجمّع متوقّف عندما يلمّ كلّ فريق شمله، وتهدأ الأحداث بينهما.

قال تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة:64 ].

وقال: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } [محمد:4].

أمَّا كلمة (محراب)؛ فهي اسم آلة على وزن مفعال، مثل مفتاح، ومنشار، وتُجمَع على محاريب، وتُطلَق على الإنسان إنْ كان شديد البأس، والشجاعة، وكثير الاشتراك في الحروب؛ حيثُ يصير كأنه آلة حرب.

قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13].

وتُستخدَم – أيضًا – كلمة (المحراب) اسم مكان:

قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران:37 ].

وقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم:11 ].

وقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ص:21 ].

والمكان لكي يُطلَق عليه اسم (المحراب)، ينبغي أن يكون مُهيَّأ للقيام فيه بأمر عظيم، مع إمكانية دخول وخروج الناس منه، فهو ليس مكانًا خاصًّا، وإنما هو مكان عامّ؛ وسُمّي هذا المكان المهيّأ للقيام بأمور مهمّة للمجتمع (محرابًا)؛ لأنه بمثابة آلة حرب، يتمّ – من خلاله – دحض الجهل، والتخلّف، والعنف، والظلم، ونشر الوعي والعلم، والمعرفة بين الناس، وتحقيق العدل، والتعايش، والتعارف، والسلام، والحرية، على أرض الواقع؛ للوصول إلى النهضة بالمجتمع، وتفعيل مقام الخلافة للإنسان.

ومن هذا الوجه؛ سُمِّي صدر المكان الذي يتَّجه إليه الناس بعقولهم وقلوبهم محرابًا، نحو جهة القبلة في المساجد، التي يمثّلها المسلمون بتجويف في الجدار؛ فكلمة محراب ليست صفة للتجويف في الجدار، وإنما هي صفة لصدر المكان الذي يتّجه الناس إليه بقلوبهم؛ لينهلوا منه القوة والمعرفة، حتى يصيروا كأنهم محاريب بأنفسهم، وبناء على ذلك؛ فالمسجد هو محراب، مثل أيّ محراب آخر، أي: أن المسجد هو مؤسّسة، ومركز ثقافي ومعرفي، مثله مثل أيّ مركز ومؤسّسة علمية وثقافية في المجتمع، ولا يمكن الاستغناء عنه أبدًا، وإساءة استخدام هذا المركز أو غيره من المراكز العلمية، أو الثقافية، ليس بمبرّر لإلغائه، أو إغلاقه.

قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران:39].

إن النصّ قد استخدم كلمة (القيام) وكلمة (الصلاة)، وقد مرَّ شرح مفهومهما آنفًا، وبناء على مفهومهما يكون مفهوم النصّ هو: كان النبي يعمل عملًا متعلّقًا بزيادة القوة، والمعرفة، لنفسه، أو للمجتمع، في مكان مهيّأ لهذا (المحراب)، ومن خلال سياق النصّ والأحداث نصل إلى أن العمل الذي كان يقوم به زَكَرِيَّا  هو فعل الصلاة بصورتها المادية، والمعنوية، ذات الركوع، والسجود، وهذه الصورة هي التي تناسب حال زَكَرِيَّا النَّفْسي؛ من تضرُّعه لله عزّ وجلّ؛ ليرزقه ولدًا، فنادته الملائكة، وبشَّرتْهُ بإجابة دعوته؛ كما هو معروف من سياق أحداث القصة كاملة.

والمحراب الذي كان فيه زَكَرِيَّا مركز ثقافي وعلمي لقيام الناس بعباداتهم، ورفع مستواهم الثقافي والمعرفي (مسجد). لذا؛ لا يوجد مبرّر لإلغاء مفهوم صورة الصلاة ذات الركوع والسجود المادي، لحساب صورة الصلاة المعنوية، والأولى أن يتمَّ تفعيل الصورتَيْن، وتسليط الضوء على الصورة المعنوية المُغيَّبة في العقل الإسلامي.