علم آدم الأسماء كلها

إنَّ كَلمة آدم في النَّصِّ المذكور لا تعني إنساناً بعينه،  وإنَّما هي دلالة على الجنس الآدمي كُلِّه،  مُنذُ بداية ظُهُور الإنسان الواعي إلى آخر الزّمن،  فهي مُتناولة كُلّ المُجتمعات الإنسانيَّة سابقاً ولاحقاً،  والتّعليم لم يكن من الرب للإنسان الفرد –  بشكل مُباشر –   كأُستاذ وتلميذ،  وإنَّما كان من خلال مَنْح هذا الإنسان –  كجنس-   الكائن الاجتماعي مجموعةَ أُمُور،  وهي:  العقل،  والنظام الصوتي،  والحُرِّيَّة،  والتّمكين في الأرض بمقام الخلافة (التسخير)،  وأداة التعليم هي القلم التي تدل على تهذيب وجدولة الأفكار والمعلومات وترتيبها وتصنيفها وَفْقَ نوعها وأدلتها وحفظها،  انظر إلى قوله تعالى: {الّذي عَلّمَ بِالْقَلَمِ* عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:  4-  5]،  ولم يذكر النص كلمة (اللِّسان)،  وإنما ذَكر كلمة (الأسماء) وهي جمع اسم،  من وَسم التي تدل على العلامة والتمييز وما شابه ذلك،  ومنه قوله تعالى:  {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]،  بمعنى الناظرين والباحثين والدارسين والمستقرئين للآيات.

فهذه الأُمُور مُجتمعة،  هي الأساس للتَّعلُّم،  وبفقدانها تنتفي صفة التَّعلُّم عن الإنسان،  ومن هذا الوجه،  ورد النص يخبر:  {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا }.  {الّذي عَلّمَ بِالْقَلَمِ} وآدم لا شك أنه من الجنس الإنساني،  ويتضمنه الخطاب ضرورة.

كقولنا:  (علَّمَ الأبُ أولادَهُ الطِّبَّ)،  والمقصد أنَّه هيَّأ لهم الظُّرُوف،  وذلَّل العقبات،  ولم يُباشر –   بنفسه –   وظيفةَ التّعليم لهم.

فالفاعل في عمليَّة التّعليم اثنان:

الأوَّل:  الفاعل هُو الرب،  وفعْلُهُ كان في مَنْح الإنسان إمكانيَّة التَّعلُّم بالقلم.

 الثّاني:  الفاعل هُو الإنسان – كجنس – عندما قام باستخدام منْحَة الرب له في التَّعلُّم بالقلم.

 ورحلة تعلُّم وظائف الأشياء،  وخصائصها،  وتوظيفها،  وتسخيرها،  مازالت قائمة في بني آدم،  والسُّؤال للملائكة عن هذه الخصائص،  والأشياء التي وصل إليها الإنسان،  مازال أيضاً – قائماً،  وجواب الملائكة بالنّفي مُستمرٌّ {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة: 32]،  ونفي علم الملائكة بذلك العلم الإنساني،  هُو شيء طبيعي،  لافتقاد الملائكة لمنْحَة اللّـه،  التي هي الحُرِّيَّة،  والخلافة في الأرض،  والتقليم للمعلومات،  فكان عدم علْمهم بخصائص الأشياء أمراً لازماً لهم،  فالملائكة لا تستطيع أنْ تخترع عُود ثقاب،  وليس هذا إنقاصاً من قَدْرهم،  بل لعدم حاجتهم إليه في حياتهم العمليَّة،  ولنفي صفة النمو والتطور عنهم،  والحاجة أُمُّ الاختراع،  فصفة الحاجة والنمو عند الإنسان،  هي الأساس في عمليَّة الابتكار والإبداع والتَّطوُّر.

وعمليَّة الإنباء من بني آدم لخصائص الأشياء،  ووظائفها مُستمرَّة من خلال الدّراسة والكَشْف،  والتّسخير لها على أرض الواقع المُشاهَد للملائكة،  والملائكة تنظر بعَجَب من هذا الجنس الآدمي الضّعيف والصّغير جسماً،  والكبير عقلاً وعلماً،  فقد استطاع أنْ يغوص في أعماق البحار،  ويُحلِّق في السماء،  واستطاع أنْ يتعامل مع الذَّرَّة،  كما يتعامل مع الشّمس،  يا له من مخلوق عظيم يتقدَّم،  ويتطوَّر مع الزّمن،  ويتعلَّم بالقلم خصائص الأشياء التي لا تعرفها الملائكة نفسها،  فَأَمَرَهَا اللّه أنْ تسجد لهذا الجنس الآدمي،  سُجُود تحيَّة،  وتعظيم،  وإكبار،  وتأييد وتسخير لما تحت تصرفهم،  وليس سُجُودَ جبهة وعبادة،  وهذا السُّجُود مُستمرٌّ –  من قِبَل الملائكة-   ما دام الإنسان مُستمراً في رحلة التَّعلُّم بالقلم،  واكتشاف قوانين الكون،  وإنباء الملائكة بأشياء لا تعرفها.

وهذا التدبر ضروري،  لانسجام النَّصِّ مع الواقع المُشاهَد،  كون الواقع أساساً،  وسابقاً في الوُجُود،  والنَّصُّ لاحقٌ،  وخبرٌ عن الواقع،  ولا بُدَّ لهذا الخبر من مصداقيَّة في الواقع.