الفرق بين الفقه والعلم

إن كلمة (فقه) لم تأت في الاستخدام القرءاني إلا بصيغة الفعل(يفقهون)، وهذا يدل على أنَّ القرءان، لا يُعطي قيمة، إلا للجانب الفاعل، ويُعرض عن الأسماء، ولا يبحث فيها.

قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (النّجم 23). وقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النّحل 32).

فعلى أيِ شيء تدل كلمة (فقه) ؟

إن كلمة (فق) ضدها مبنى ومعنى كلمة (قف)، التي تدل على قطع شديد  منته بفتح خفيف منضم؛ فتكون دلالة كلمة (فق) ضرورة تدل على فتح منقطع، وزيادة حرف في آخرها، لا يغير دلالتها، وإنَّما يزيد عليها ويوجهها نحو جهة معينة، وحرف (الهاء) يدل على التّأرجح الخفيف، ما يُعطي لدلالة كلمة (فق) حركة التأرجح  ـ  في الواقع  ـ  فتصير (فقه) بمعنى الدّراية للشّيء، والفهم المُباشر له بصورة احتمالية.

اقرأ قوله تعالى:

1-{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه 27 ـ 28).

2 ـ{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} (هود 91).

3- { فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}  (النّساء 78).

4- {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}  (التّوبة 122).

أي لولا قام نفرٌ منهم وبادروا؛ ليفهموا أمور الدِّين الأساسية، من مفاهيم إيمانية، وعبادة، وأحكام اجتماعية، والحرام والحلال، والواجب؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.

فعملية الفقه، هي عملية تواصل وتعامل مع النّاس ـ مُباشرة ـ من المتكلم إلى المخاطب أخذًا وعطاءً؛  ليتم التّفاهم فيما بينهم،  وهذا لا يدل   بالضرورة على صواب الأمر الذي هو محل للفقه، فالحكم عليه بالصّواب أو الخطأ، أمر يرجع إلى العلم، فما هو العلم؟

العين:ع: تدل على العمق.

اللام: ل: تدل على حركة متصلة بطيئة لازمة.

الميم: م: تدل على جمع متصل.

ومن خلال تركيب الأحرف مع بعضها، نلاحظ أن دلالة كلمة (عَلِمَ) تأخذ معنى الأمر الذي يحدث في العمق، بصُورة منسجمة ومتواصلة مع بعضها دون انقطاع لتصل إلى تركيب شيء واحد متماسك وثابت.

ومن هذا الوجه، ظهرت صُور استخدام كلمة (علم) في الواقع؛ فنقول: علامة ومَعْلَمْ وعَلَمْ…. الخ، للأمور التي تكون أثرًا ثابتًا، وتستخدم لتوجيه وإرشاد وبناء غيرها عليها.

يقول الأستاذ محمد عنبر: (وفي كل هذه الصّور يتجلى الوضوح والتّمييز والثّبات في العلم، ويظهر الاضطراب هنا وهناك، والإسراع وعدم الاستقرار في الملع)(1) .

إذًا، العلم هو السّير في الأرض (دراسة)؛ لمعرفة كيف بدأ الخلق، وإلامَ آل، وتتبع هذه الحركة (الكيف)؛ للوُصُول إلى اكتشاف السّنن التي تحكمه (الرّوح)، ومن ثم َّ، يتمكن الإنسان من التّنبؤ بحركته القادمة، وتسخير ذلك لمصلحة الإنسان، وذلك على صعيد الآفاق، أما على صعيد الأنفس؛ فالتّاريخ الإنساني، هو المخبر الموضوعي لدراسة القيم والأخلاق والأحكام، المتعلقة بالإنسان والمجتمع، وذلك من خلال النّظر إلى عاقبة الأمور، التي آلت إليها الأقوام في رحلة الحياة، انظر قوله تعالى:

1- {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}  (الأنعام 11).

2- {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}  (النّمل 69).

3 ـ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت 20).

ولذلك أمر الله النّاسَ بالعلم؛ فقال جل شأنه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}  (محمد 19) ولم يقل افقه لأن مسألة أحدية الله بحاجة لدراسة ولا يمكن إدراكها بالمعرفة، وكذلك لم يسم الله نفسه فقيهاً، وإنما سمى نفسه عليمًا.

وهذا الأمر بالعلم، إنَّما هو أمر للسّير في الأرض، ودراسة كيف بدأ الخلق، ومن جراء ذلك تصلون إلى تسخير الخلق لكم، والتّنبؤ بحركته من خلال اكتشاف السّنن التي تحكمها (الرّوح)، التي لا تتغير أو تتبدل، ومع هذه الرّحلة الكيفية، تصلون تباعًا إلى أنه لا إله إلا الله، الخالق المدبر كضرورة علمية، وحقيقة موضوعية، وثمرة لرحلة العلم.

ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر 28)،  فالعلماء هم ورثة الأنبياء؛ بالعلم والدّعوة والعمل لخير النّاس وصالحهم، وهذا التّفريق بين دلالة كلمة (فقه) وكلمة (علم)، ضرورة علمية واجتماعية،  وذلك حتَّى نضع النّقاط على الحُرُوف، فالفقهاء، ليس لهم أي رأي في الأمور المتعلقة بكيف بدأ الخلق، من الكون والإنسان والأرض والحيوان والنّبات….. الخ؛ سواء أكان ذلك الفقيه معاصرًا، أم كان من فقهاء التّراث الإسلامي، وأي كتاب فقه، أو تفسير، يتعرض لهذه المسائل، يُهمل رأي كاتبه،  ولا يُعتد به؛ سواء أكان من الخلف، أم من السّلف، أم ممن عاصر نزول الوحي.

وكذلك، كل من يحفظ المعلومات، ويأخذ الشّهادات في ذلك، فليس هو أكثر من ببغاء يردد ما حفظ دون وعي وإدراك، أو مشاركة في البحث والدّراسة، و الذي ينبغي أن يُعتد برأيه، ويُعتمد عليه، ويؤخذ على محمل الجد والاحترام، هو الرّأي المبني على السّير في الأرض (العلم)، ولا يهمنا جنسية  هذا الإنسان، أو توجهه  الفكري؛ لأنَّ العلم لا يُحابي أحدًا، ومعه دائمًا شاهِدا عدل نزيهان، وهما الآفاق والأنفس.

(كل عالم  فقيه، والعكس غير صواب)…

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت 53).

(1) جدلية الحرف العربي، ط دار الفكر ص 428.