التّطور خلقًا للبشر وليس للإنسان

بعد أن عرفنا أنَّ الجسم مخلوق من تراب وماء (الطّين)، من حيث أصل الخلق، ومن ثم جُعل نسله من ماء مَهين يتكاثر من خلاله، وعرفنا أنَّ النّفس، قد خُلقت من مارج من نار، من حيث أصل الخلق، وخُلق زوجها منها؛ ليظهرا في الواقع زوجين، وتم بث الرجال والنساء منهما؛ تبين لنا صواب كل من النّظريتين الآتيتين:

1 ـ نظرية التّطور والارتقاء:

تقول هذه النّظرية: إنَّ الكائنات الحية، وعلى رأسها البشر؛ لم تُخلق بهذه الصّورة مُباشرة(1)، وإنَّما مرّت بمراحلَ تطور ٍمن صُورة إلى أخرى، على سُلم التّطور مع حفاظ كل جنس على شجرته إلى أن وصلوا إلى الصّورة الحالية، وثبتوا على ذلك نتيجة ثبات السّنن، والقوانين الإلهية على الوضع الرّاهن.

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه5)

{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب 62).

2 ـ نظرية الخلق من نفس واحدة:

من هذه النّفس الأولى، خُلق زوجها منها؛ ليصيرا في الواقع زوجين، ومنهما تمت عملية بث الرجال والنساء، وذلك مثل أخذ شعلة من النار، حيث تصير كل شعلة نار بذاتها، ولها صفات الأولى؛ دون أن ينقص من النار الأولى شيء.

فنظرية التّطور، محلها الكائن البشري (الجسم)، وهو موضوع يخضع للدّراسة الموضوعية، من خلال السّير في الأرض، ومعرفة كيفية بدأ الخلق، وهذا ما قام به العلماء وعلى رأسهم دارون، ولكن الذي حصل أن هذه النّظرية، جُوبهت بالرّفض من كثير من العلماء؛ لأنَّ النّظرية لا تملك أجوبة عن كثير من المسائل الجزئية، وما تم افتراضه، تعارض مع كليات من العلم حتى قيل: إنه لم يبق من نظرية دارون إلا اسمها، وقام علماء الدِّين معتمدين على التلمود بصُورة مُباشرة، أو استخدموها لتأويل النّص القرءاني، المتعلق بخلق النّفس الواحدة، وأغفلوا النُّصُوص القرءانية المتعلقة بخلق البشر، ورفضوا نظرية  تطور الخلق، وبعملهم هذا جعلوا تعارضًا بين العلم والكتب المقدسة الإلهية؛ واستخدم اللادينيون ذلك التناقض في الكتب المقدسة لنقضها ونفي مصدريتها الربانية؛ ونفي الدين كله،وقامت الدّنيا، ولم تقعد إلى زماننا هذا!.

فعلماء التّطور، تناولوا في دراستهم خلق الكائنات الحية، وعلى رأسها الكائن البشري فقط، كونه موضوعًا يقع الحس عليه، بصُورة مُباشرة، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه، من تفاصيل وجزئيات فرضية، لا يزال العلم بين مد وجزر فيها، يعدل وينفي ويفترض.

أما من حيث أصل النّظرية، بصُورتها الكُلِّيَّة، دون الجزئيات؛ فهي أمر مقبول في الوسط العلمي، وهي منسجمة ـ  إلى حد كبير ـ مع النُّصُوص القرءانية المتعلقة بخلق الكائن البشري، ولم يتناول علماء التّطور مسألة خلق النّفس؛ لخُرُوجها من مجال بحثهم ودراستهم؛ ولانتفاء وقوع الحواس عليها، بصُورة مُباشرة، ولعدم وُجُود مصدر علمي موثوق عندهم؛ يخبرهم عن وُجُود النّفس، ككائن مغاير للجسم، ومن أي مادَّة تم خلقها؟  وما هي صفاتها؟

أما علماء الدِّين السّلفيون ـ  من مختلف الملل ـ  فقد اعتمدوا النُّصُوص الدِّينية المتعلقة بخلق النّفس، وأسقطوها على الكائن البشري، وبناء على عملهم الغوغائي(1)؛ رفضوا نظرية التّطور للكائنات الحية.

مع العلم أن عملهم هذا، انعكس عليهم من حيث أنهم ضربوا نُصُوص القرءان ببعضها، وأشاعوا وأسسوا لمفهوم فصل القرءان عن العلم،  وأنَّ القرءان يُفهم نقلًا وليس عقلًا، وأنَّه لا يخضع في فهمه للعلم والأدوات المعرفية، بحجة أن ما هو رباني، كيف يخضع لما هو إنساني؟. 

وفاتهم أن ما يصل إليه الإنسان من عُلُوم، إنَّما هي معرفة سنن الخالق وقوانينه في الوُجُود.

إذًا؛ العلم هو أمر الله في الوُجُود ( الرّوح ) فعندما نستخدم العلم في دراسة النّص الرّباني، نكون قد استخدمنا قوانين الله وسننه (الرّوح) في فهم كلام الله، فالإنسان لا يتدخل في وضع أي شيء من السّنن، بل ليس له ذلك؛ لعجزه، وإنَّما يقوم الإنسان باكتشاف أمر الله في الخلق (الرّوح) ويستخدم الرّوح؛ لفهم النّص الرّباني، الذي هو بدوره روح من الخالق، ومن ثم َّ، يكون بعمله هذا، قد ضم الرّوح النّقلي الإلهي، إلى الرّوح العلمي الكوني.

فكلا النّظريتين صواب، نظرية التّطور للكائن البشري ( الجسم)، ونظرية الخلق المُباشر للنّفس، ومن ثم؛ فالقرءان يصدق العلم، والعلم يصدق القرءان؛ لأنهما توأمان من مشكاة واحدة، يسيران مع بعضهما، بصُورة منسجمة كل الانسجام، مع احتفاظ القرءان بالأسبقية في السّير، وإتباع العلم له ـ  يترجم نُصُوصه عمليًا في الواقع ـ  والعلاقة بينهما علاقة جدلية، إذ القرءان يقوم بذكر معالم، وومضات مفصلية في الموضوع؛ ليدل الباحث ويحدد مساره ويدفعه إلى الأمام؛ فكان القرءان هو بمثابة البوصلة للعلم عمومًا.

لذا؛  ينبغي أن يُتخذ القرءان، مصدرًا علميًا مترافقًا مع الواقع؛ لأن عملية إبعاده عن المصدرية العلمية، هي التي سببت هذا الصّدام والشّرخ بين العلم والقرءان

(1) التطور كان منذ القدم السحيق إلى أن ظهرت الأجناس واستقلت عن بعضها، وحافظ كل نوع على مورثاته، فنوع البشر غير نوع القرود رغم انتمائهم جميعًا إلى جنس الثدييات، وأصل الجميع التراب والماء وإليه يعودون. وسواء قلت بصحة النظرية أو خطئها فهذا لا علاقة له بإثبات الخالق المدبر أو نفيه، فالخالق المدبر ثابت وجوده فطرة ومنطقًا وواقعًا، وتدرس نظرية التطور علميًّا وليس دينيَّا.

(1) وذلك نتيجة اعتمادهم على ما يسمى  الترادف خطأً فلم يُفرقوا بين دلالة كلمة البشر، ودلالة كلمة الإنسان، واستخدموا المجاز في القرءان، وأساؤوا في استخدام وإرجاع الضمائر في النص، وكل ذلك بسبب اعتقادهم بنشأة اللسان العربي بصورة اعتباطية أو وضعية، واعتمادهم على التلمود اليهودي في دراسة القرءان.