مَن العدو الأول إسرائيل أم إيران
منذ منتصف القرن العشرين، كانت إسرائيل العدو الأول بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية. شكل الصراع العربي- الإسرائيلي المحور الرئيسي للتوترات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. ولكن، خلال العقدين الأخيرين، شهدت المنطقة تحولًا كبيرًا في أولويات الشعوب والدول العربية، حيث تراجعت إسرائيل في نظر الكثيرين من العدو الرئيسي إلى عدو ثانوي، لتحل محلها إيران كتهديد أول. هذا التحول لم يكن نتيجة طبيعية أو تطورًا داخليًا في المنطقة فحسب، بل كان إلى حد كبير نتيجة لسياسات مخططة ومحكمة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل.
المدخل:
منذ الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات وحتى التدخل الإيراني في الشؤون العربية خلال العقدين الأخيرين، استغلت الولايات المتحدة وإسرائيل هذا السياق لتغيير نظرة الشعوب العربية نحو إيران. عملت هاتان الدولتان على استغلال التوترات الطائفية والمذهبية بين السنة والشيعة، وزادت من تعميق الشكوك والخلافات بين الدول العربية وإيران، مما ساهم في توجيه العداء بعيدًا عن إسرائيل ونحو إيران.
وفي هذا السياق، تبرز عدة عوامل واستراتيجيات أدت إلى هذا التحول، حيث ساهمت الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل مباشر في تصعيد التوترات مع إيران وجعلها العدو الأول في نظر العديد من الدول والشعوب العربية.
أدى تحول الرأي العام العربي تجاه إيران كعدو رئيسي بدلًا من إسرائيل إلى عدة عوامل سياسية واستراتيجية معقدة. يمكن تفكيك هذه العملية على النحو التالي:
1. استغلال الانقسامات الطائفية والعرقية:
• التوترات السنية-الشيعية: الولايات المتحدة وإسرائيل استغلتا التوترات الطائفية في المنطقة العربية بين السنة والشيعة. كانت إيران، بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تسعى لتصدير نموذجها الثوري الشيعي إلى المنطقة، وهو ما أثار قلق الدول ذات الأغلبية السنية، خصوصًا في الخليج العربي.
• إذكاء المخاوف الخليجية: عملت الدول الخليجية، خاصة السعودية، على تضخيم التهديد الإيراني باعتبارها دولة توسعية تسعى للهيمنة على المنطقة عبر وكلاءها في العراق، سوريا، لبنان واليمن.
2. الدور الإيراني الإقليمي:
• تدخلات إيران في دول عربية: زادت مخاوف الدول العربية من توسع النفوذ الإيراني في العالم العربي عبر دعمها لجماعات شيعية مسلحة، مثل حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، ودعمها لنظام الأسد في سوريا. هذه التدخلات جعلت إيران في نظر العديد من العرب لاعبًا خطرًا يسعى لتقويض استقرار المنطقة.
• سياسة إيران تجاه القضية الفلسطينية: رغم تبني إيران خطابًا مناهضًا لإسرائيل ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية مثل حماس، إلا أن الانقسامات الفلسطينية-الفلسطينية وعدم نجاح إيران في تغيير الوضع على الأرض عزز شعور بعض الدول العربية بأن إيران تستغل القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذها الإقليمي أكثر من كونها حليفًا صادقًا في الصراع مع إسرائيل.
3. التطبيع العربي مع إسرائيل:
• اتفاقيات التطبيع : بدأت دول عربية مثل الإمارات والبحرين في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، مما أدى إلى تراجع العداء العلني تجاه إسرائيل. تزامنت هذه التحركات مع شعور متزايد لدى بعض الأنظمة العربية أن إسرائيل تشكل تهديدًا أقل مقارنة بإيران، وأن التعاون مع إسرائيل قد يوفر منافع اقتصادية وأمنية، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني.
• مواجهة التهديد الإيراني: بعض الدول العربية باتت تنظر إلى إسرائيل كشريك استراتيجي محتمل في مواجهة التهديد الإيراني، مما أدى إلى تحالفات أمنية واستخباراتية غير رسمية بين بعض الدول الخليجية وإسرائيل.
4. الدعاية الإعلامية والتأثير الغربي:
• التأثير الإعلامي: الإعلام الغربي والإسرائيلي ركز على تصوير إيران كتهديد رئيسي للمنطقة مستغلا عدوانها على الشعوب العربية وإجرامها، وصرف النظر عن ذلك ريثما يظهر رأي عام أن إيران هي العدو الأول والأخطر في المنطقة ، وتزامن ذلك مع تغطية سلبية للدور الإيراني في العراق وسوريا واليمن. هذا الإطار الإعلامي ساهم في تشكيل وعي عربي جديد يرى إيران كعدو أول.
• الدعاية الخليجية: قامت وسائل الإعلام المدعومة من دول الخليج (مثل قنوات العربية وسكاي نيوز العربية) بتضخيم التهديد الإيراني والمساهمة في تغيير الخطاب العام من اعتبار إسرائيل العدو الأول إلى اعتبار إيران الخطر الأكبر.
5. تراجع الحضور الأمريكي والإسرائيلي:
• تغير الاستراتيجية الأمريكية: الولايات المتحدة قللت من تدخلها المباشر في صراعات الشرق الأوسط، خاصة بعد انسحابها من العراق وتقليل وجودها العسكري في أفغانستان. ركزت السياسة الأمريكية في المنطقة بشكل متزايد على احتواء إيران بدلًا من المواجهة المباشرة.
• إسرائيل كتهديد أقل: في مقابل التهديد الإيراني المتنامي، صارت إسرائيل في نظر بعض الدول العربية “تهديدًا مستقرًا” يمكن التعايش معه. فالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، رغم كونه مستمرًا، لم يعد يشكل التهديد الوجودي الذي كان يمثله في الماضي بالنسبة لبعض الأنظمة العربية.
الخاتمة:
تضافرت هذه العوامل لتشكيل خطاب جديد في العالم العربي يرى أن إيران تشكل الخطر الأكبر على استقرار المنطقة، بينما تراجعت إسرائيل إلى مرتبة أدنى من حيث التهديد. ساهمت الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا التغيير من خلال استغلال التوترات الطائفية والممارسة الإجرامية لإيران، وتراجع النفوذ الأمريكي المباشر، والدعاية الإعلامية المركزة، بالإضافة إلى التغيرات الاستراتيجية الداخلية في العالم العربي.