فائدة قرءانية أصولية للتدبر

الأصل في الخطاب القرءاني العموم لكل الناس مالم يأت قرينة تحدد النوع أو المقام أو الصفة، والقرينة يمكن أن تكون في النص صراحة أو تكون عقلية من خلال تعلق الخطاب بمحله من الواقع، فكلمة الناس تعني كل الناس بصرف النظر عن نوعهم وعمرهم ( ذكر أو أنثى) ،أو مقامهم ( رجال أو نساء)، أو صفتهم ( مؤمنين أو كفار) مثل قوله تعالى :
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }{مَلِكِ النَّاسِ }{إِلَهِ النَّاسِ }الناس1- 3
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }آل عمران9
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }المطففين6
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58
بينما نجد في نصوص أخرى كلمة الناس حددها محل الخطاب من الواقع بالناس البالغة العاقلة لاتشمل الأطفال ومن فقد عقله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
وأتت كلمة الناس ويقصد بها الوسط الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان وليس كل الناس في الكوكب الأرضي
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }آل عمران46
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }النساء37
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }آل عمران41
وأتت كلمة الناس ويقصد بها جزء من المجتمع أو الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان أومجموعة من الناس غير محددين.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }آل عمران173
وهذا يدل على أن الكلمة لها مفهوم واحد في اللسان العربي وتتعدد معانيها وتختلف من سياق إلى آخر حسب تعلق الخطاب محكومة بالمفهوم اللساني لاتتجاوزه ولكن قد تعم أو تخص صورة معينة دون الصور الباقية .
وكذلك نتعامل مع الخطاب القرءاني التكليفي الأصل فيه العموم لكل المؤمنين بصرف النظر عن نوعهم أو مقامهم الاجتماعي، مع الإنتباه إلى أن ذلك لايشمل الأطفال فهم ليسوا محل إيمان أوكفر.
ويأت الخطاب أيضاً عام للمجتمع ولكن محل الخطاب من الواقع يحدد المعنى بنوع الذكور لطبيعة دورهم الوظيفي
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء23
أتى هذا الخطاب عام للمؤمنين ولكن الصيغة والسياق أتت تتعلق بالذكور البالغين كونهم هم طُلَّاب النكاح والفاعلية، والنساء محل تعلق النكاح والطلب ، ويفهم التحريم لهن من خلال مفهوم المخالفة بمعنى تحريم نكاح الولد لأمه يتضمن تحريم الأم نكاح ولدها، وتحريم البنت نكاح أبيها ، وهكذا بقية المذكورين في النص نعكس النوع فيتضمن تحريم نكاح الأعمام والأخوال.
ومثل ذلك أيضًا خطاب : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }النساء3،أتى بصيغة العموم للناس أو المجتمع (إن خفتم) ولكن في الواقع الذي يقوم بفعل طلب النكاح هم الذكور ويكون النساء محل تعلق النكاح ، أي الذكر طالب ، والأنثى مطلوبة ، ولذلك أتى الخطاب الذي يتعلق بالنكاح والطلاق بصيغة ذكورية ، مع عدم تغييب المسؤولية عن المرأة لأنها سوف تتحمل نتيجة اختيارها وقرارها بالموافقة أو الرفض، بمعنى أن أم اليتامى لها رأي في اختيار الرجل المتقدم لها وهل يصلح فعلا للعناية باليتامى أم لا.
فكما لاحظنا أن النص القرءاني يشارك المتلقي للخطاب في تحديد المعنى ويعتمد على فهمه وعلمه وما هو ثابت في الواقع وتحصيل حاصل أو يستخدم المخزون الثقافي والتواصل الاجتماعي المتتابع مثل كيفية الصلاة والحج .
اقرؤوا قوله تعالى :
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }البقرة199
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ }الشعراء132
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ }المعارج39
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء23
يفهم المتلقي للخطاب من خلال التفاعل والفهم وإسقاط النص على محله من الواقع أن فعل التحريم يتعلق بالنكاح وليس بالأكل والطعام رغم عدم ذكر فعل النكاح في النص.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المائدة3
يفهم المتلقي للخطاب من خلال التفاعل والفهم وإسقاط النص على محله من الواقع أن فعل التحريم يتعلق بالطعام والأكل والغذاء رغم عدم ذكر الأكل في النص
وهذا يدل على أن الخطاب القرءاني خطاب حيوي صدر من عالم حكيم إلى عاقل متعلم يتدبره ويدرسه، وأن المتكلم يشارك المتلقي للخطاب في الوصول للمعنى والمقصد من خلال نزول الخطاب بلسان عربي مبين وتعلقه بالواقع كآفاق وأنفس بشكل حنيف يقوم على محور الثابت والمتغير والمقاصد والمنافع والعواقب حسب طبيعة النص، وهذا يدل على أن المعنى للنص أوالمقصد لايكون أحياناً موجود بمعاني المفردات اللسانية وإنما موجود بمحل تعلق الخطاب من الواقع ويحتاج المتدبر من تفعيل قدرة الفهم عنده وتحليل النص ومعرفة المقصد منه من خلال إسقاطه على محله من الواقع ، وهذا يوصلنا إلى أهمية دراسة الكلمة وفق السياق ومحل تعلقها من الواقع وفهم النص ضمن المنظومة التي ينتمي إليها النص وتشكيل المفهوم بعد ذلك دون تجزئة أو عزل للكلمة أو النص مثل ( فويل للمصلين) أو ( فاقتلوهم حيث ثقفتموهم) أو ( لاتقربوا الصلاة ) أو فانكحوا ماطاب لكم)…
هذه القاعدة الأصولية ينبغي على الباحث القرءاني أن ينتبه لها لأن كثير من الباحثين زلت قدمهم في فهم بعض المفاهيم أو الأحكام من جرَّاء عدم فهمهم لهذه القاعدة.