دلالة النظر والرؤية والبصر في القرآن: بين الإدراك الحسي والمعنوي
يمتاز اللسان القرآني بدقة استعماله للمفردات، وتفريقه الدقيق بين ما قد يُعدّ في الألسن الأخرى مترادفًا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: استعمال القرآن لكلمات النظر، والرؤية، والبصر. فمع أنّها جميعًا تتصل بفعل الإدراك، إلا أنّ كلًّا منها يحمل وظيفة دلالية خاصة، ويرتبط بسياق مادي أو معنوي يتفاوت في طبيعة الفعل وعمقه ونتيجته. وهذه الدراسة تسعى إلى بيان الفروق الدلالية المنهجية بين هذه المصطلحات الثلاثة، كما وردت في النص القرآني.
أولًا: “النظر” بين الحسّ والتأمل
جذر كلمة “النظر” هو (ن-ظ-ر)، ويدل في الأصل على توجيه العين أو الفكر نحو شيء ما بقصد الانتباه أو الترقب أو التدبر. غير أن النظر في القرآن لا يعني بالضرورة الإدراك التام أو الرؤية التامة، بل قد يدل على الانتباه الظاهري دون وصول إلى إدراك حقيقي، وقد يكون نظرًا قلبيًا لا بصريًا.
وقد ورد في قوله تعالى:
{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17]،
دعوة للنظر التأملي التفكري في صنعة الخلق، لا مجرد نظر عابر بالعين.
وكذلك قوله:
{انظر كيف كان عاقبة المكذبين} [الأنعام: 11]،
يدعو إلى نظرٍ يتجاوز الحس إلى الاستنتاج من التاريخ.
كما جاء أيضًا في وصف فعل إبراهيم عليه السلام:
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات: 88]،
وهو نظر يدل على التدبر والاستنتاج، لا على المشاهدة العابرة.
النظر إذًا هو بداية عملية الإدراك، وقد يكون بالحس الظاهري أو بالعقل، دون أن يستلزم تحقق المعرفة أو التمييز التام.
ثانيًا: “الرؤية” وإدراك المعنى أو الصورة
أما الرؤية، فجذرها (ر-أ-ي)، وتدل على الإدراك المباشر للشيء سواء بالبصر، أو بالعقل، أو بالقلب، أو حتى في المنام. ولذلك فإن استعمال الرؤية في القرآن يأتي بمعانٍ متنوعة، كلها تجمع بين الحسّي والمجرّد، لكنها تدل غالبًا على تحقق نوع من الإدراك أو التصور.
من ذلك قوله تعالى:
{قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144]،
فالرؤية هنا فعل بصري حسي ظاهر.
لكن قوله:
{أرأيت الذي يكذب بالدين} [الماعون: 1]،
فهو استعمال معنوي؛ لأن “أرأيت” هنا ليست بمعنى “هل شاهدت”، بل هي بمعنى: “هل علمت أو تصوّرت هذا النموذج؟”
وكذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم:
{إني أرى في المنام أني أذبحك} [الصافات: 102]،
فهنا الرؤية ليست حسية، بل رؤيا منامية تحمل رسالة رمزية/حقيقية، مما يدل على أن الرؤية القرآنية قد تكون إدراكًا غيبيًا أو وجدانيًا أو تنبيهيًا.
فالرؤية في القرآن تمثل درجة من الإدراك قد تكون حسية أو عقلية أو روحية، وتختلف عن النظر بأنها تفترض تحقق التصور أو الصورة، لا مجرد التوجّه.
ثالثًا: “البصر” وتمام الإدراك والبصيرة
أما البصر، فجذره (ب-ص-ر)، ويدل على الإدراك الحسي اليقيني الدقيق، أو الإدراك العقلي الواعي الثاقب. ويختلف عن النظر والرؤية بأنه يدل غالبًا على الإدراك الكامل المصحوب بالتمييز والفهم، سواء عبر العين أو عبر البصيرة.
يقول تعالى:
{إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]،
فقد بيّن أن البصر الحقيقي ليس فقط بعمل العين، بل بالبصيرة.
وفي قوله:
{قد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]،
دل على أن البصر الحقيقي يتجلّى حين يزول الغطاء، أي حين تظهر الحقيقة.
وفي قوله:
{وجعلنا له سمعًا وبصرًا} [الإنسان: 2]،
ربط البصر بالوظيفة الإدراكية التي تميّز الإنسان عن بقية المخلوقات.
فالبصر يدل على إدراك نافذ واعٍ للحقائق، وقد يكون بالبصر المادي أو بالبصيرة القلبية، ولذلك فهو في مرتبة أعلى من النظر والرؤية من حيث عمق الفهم وقوة التمييز.
الخاتمة:
من خلال هذا التحليل الدقيق نصل إلى أن:
- النظر هو فعل أولي يتجه فيه المرء إلى الشيء بحواسه أو فكره، وقد لا يصاحبه إدراك.
- الرؤية هي إدراك حسي أو عقلي أو وجداني لشيء ما، وقد تقع في الخارج أو في الخيال أو في المنام.
- البصر هو إدراك تام واعٍ يتضمن الفهم والتمييز، ويستعمل في القرآن للدلالة على البصيرة العقلية والروحية أيضًا.
وبالتالي فإن هذه المصطلحات ليست متطابقة بالمعنى، بل تمثل درجات من التفاعل الإدراكي بين الإنسان والعالم من حوله، تتدرج من التوجّه (نظر) إلى التصوّر (رؤية) إلى التمييز الواعي (بصر). وهذا من إحكام القرآن في دقته اللسانية، حيث لا يضع لفظًا إلا بمقداره ومعناه وسياقه المحكم.
اضف تعليقا