كيف نعرف أن القرآن وحي من الله

كثيراً ما يتساءل الشباب! كيف نثبت أن القرآن وحي من الله,كما قال الآباء لنا, وكما ورد في التراث؟ ونحن لا نستطيع إدراك قوة بيانه أو بلاغته, أو طريقة نظمه للكلمات والجمل إذا كان برهانه الإعجاز اللساني, ونحن لسنا من العلماء حتى ندرك دقائق النظريات الكونية التي أشار إليها القرآن أو ذكرها صراحة, ولا نرضى بأن نتبع العلماء في هذه المسألة المصيرية بناء على الثقة, وخاصة أن القرآن خطاب لكل الناس, وهذا يقتضي أن يعرف كل الناس مصداقية وصواب نسبة القرآن إلى الوحي الإلهي!.

هذا التساؤل كامن في نفوس الناس عامة, ولا يجدون جواباً مقنعاً يجعلهم يؤمنون بصورة عقلية تبث الاطمئنان في قلوبهم.

وهذا السؤال حق مشروع، يطرحه كل تابع ومتبوع.

وقبل أن أعرض مجموعة من النقاط التي تساعد الإنسان في الوصول إلى جواب بنفسه لابد من عرض بعض مسائل هامة وهي:

ينبغي أن نفرق بين التصديق بوجود الله كخالق مدبر التي هي مسألة فطرية لا يملك العقل أو النفس رفضها، وبالتالي ليست هي محل نقاش أو برهنة لبداهتها، ومسألة الإيمان بالله التي هي مرحلة أعلى من التصديق إذ تضيف له الاتباع، والإيمان مسألة أخلاقية وليس مفهوماً فلسفياً للنقاش أو الإثبات، وبالتالي لايخضع للبرهنة، ومن هذا الوجه كانت حجة الله قائمة على الناس كلهم فطرة وأخلاقاً، ولتقريب الفكرة أقول هل يوجد إنسان عاقل يطلب البرهان على أن الفعل لابد له من فاعل، أو برهان على وجوب الصدق والأمانة بين الناس؟ أو نفي الغدر والقتل وسرقة الناس؟ الأخلاق الإنسانية منظومة يحملها الإنسان منذ ولادته وانتمائه الاجتماعي بصرف النظر عن تصوره للوجود ، والإنسان كائن اجتماعي أخلاقي.

لذا؛ التصديق بالخالق المدبر فطرة، والإيمان به حرية، وكلاهما لايخضعان للبرهنة لأن الأول بداهة والثاني موقف أخلاقي، فعلى ماذا يتناقش الناس أو يتحاربون؟

إنهم يتحاربون على المصالح والمكاسب والظلم والجشع والاستبداد والاستعباد…الخ، ويُلبسون حربهم لباس الدين أو الإيمان ليضللوا الناس ويجعلوهم وَقوداً للحرب يضربون بهم كأداة حربية ليس إلا.

فالناس أحرار في تصوراتهم وسلوكهم الشخصي، ولكنهم ليسوا أحراراً في أخلاقهم الاجتماعية والتزامهم بالعدل والصدق والأمانة…الخ.

القرءان كتاب الله أنزله للناس جميعاً وليس لفرد واحد، وربط خطابه بالكون، وبالتالي فدراسته أو فهمه متعلق بالمستوى المعرفي للإنسان وتطوره، وهذا يعني أن الإنسان كمجتمع ومن باب أولى الفرد أن لايحيط به علماً ، فكل مجتمع يأخذ حاجته منه ويترك ما غلق عليه فهمه للمجتمعات اللاحقة، لذا؛ من الطبيعي أن لايعلم الفرد كثيراً من مفاهيم نصوصه لأن الخطاب إنساني زمكاني ، والأمر أشبه برسالة موجهة لمجموعة من الناس مختلفون في تصوراتهم وثقافتهم ومستوى علمهم وبيئتهم، ونص الرسالة مصاغ بحيث يغطي كل المستويات ، وبالتالي إذا قرأ الرسالة واحد منهم لا يمكن أن يحيط بها علماً، وإنما يأخذ حاجته منها وما فهمه، ومن الخطأ أن يترك الرسالة كلها بحجة أنه لم يفهم الأمور الأخرى التي ليست له أصلاً، وإذا قُرأت الرسالة من المجموعة كلها لاشك أن مستوى فهم الرسالة سوف يكون أرقى وأوسع من القراءة الفردية، فما بالك إذا كانت الرسالة موجهة لكل المجتمعات مع اختلاف الزمان والمكان!

وينبغي العلم إن الإنسان محدود العلم والمعرفة وبالتالي لايصح أن يجعل من فهمه معياراً أو ميزاناً للصواب أو الخطأ ، المقياس أو الميزان هو العلم ، فإن لم يفهم مسألة معينة لايعني خطئها أو عدم وجودها، نحو حصول ظاهرة فلكية أو فيزيائية خارج المستوى العلمي للناس.

لذا؛ ينبغي أن ندخل إلى العلم ونحن مؤمنين به والصواب ما يقره العلم والخطأ ما ينفيه، لاعلاقة لعدم ارتياحنا أو رفضنا أو قناعتنا الشخصية الشعورية في ذلك قط، وكذلك ندخل إلى القرءان باحثين عن الحقيقة ولسنا مشككين أو رافضين له سلفاً، ونختبر حقائقه ونتأكد من أحكامه من خلال ملاءمتها للواقع و تحقيقها للمنفعة العامة للناس والفرد خاصة، فالواقع موجود وهو محل الخطاب، فأي نص يتناقض مع الحقيقة العلمية فلاشك بكذبه أو خطئه، وأي حكم يترتب عليه الضرر أو الفساد للناس فلا شك أنه من عند الطاغوت وليس من عند الله الخالق العليم الحكيم.

انظروا مثلاً هل يقبل أحد بإباحة نكاح أمه أو أخته أو بنته له؟ هذا ما حرمه القرءان.

هل يقبل أحد بالتعامل بالربا المعروف الذي لاخلاف عليه بين الناس الذي يقوم على استغلال العلاقات الإنسانية والاحتياج والضعف؟ هذا ما حرمه القرءان .

هل يقبل أحد أن يسمح بقتل الناس لبعضهم بعضاً؟ هذا ما حرمه القرءان.

القرءان أمر ببر الوالدين والعناية باليتامى والأطفال، وحفظ البيئة والمجتمع من التلوث المادي والفكري من إرهاب أو عنف أو غيره.

أما أن يترك الإنسان كل هذه الحقائق والأحكام الاجتماعية الإنسانية ويجري خلف نص لا علاقة له بذلك، ولم يفهمه هو لقصور في فهمه، ويستخدمه لنقض القرءان كله ، فهذا عمل اعتباطي وهو أشبه بمن يرفض الرياضيات أو الفيزياء لعدم معرفته لموضوع جزئي فيهما!

وأصاب الشاعر عندما قال:

كم من عائب قولاً صواباً……..وآفته من الفهم السقيم

ونهاية؛ ينبغي العلم للباحث في القرءان أن القرءان له نظام خاص به في دراسته مثل نفي الترادف والمجاز والاعتباطية في مفاهيم أصوات الأحرف، وأن الكلمة لها مفهوم واحد ومعاني متعددة تفهم حسب السياق ومحل الخطاب، وينبغي معرفة نظام استخدام الضمائر وعائديتها في النص من مفرد أو جمع، ومعرفة أن القرءان منظومة واحدة يحتوي على منظومات ، ومفاتيح ذلك النظام موجودة في القرءان ذاته.

أيها الشباب! أقول لكم بكل بساطة إن هذا القرآن أمام احتمالين لا ثالث لهما,

أولهما: أن يكون القرآن وحياً من الله.

والآخر: أن يكون من تأليف الإنسان أيٍّ كان.

ومعرفة ذلك على درجة من السهولة, وهو أمر أدرجه الله تبارك وتعالى ضمن مدارك الناس, وذلك لإقامة الحجة عليهم, وتحقيق العدل الإلهي،ويتأتى ذلك من خلال مجموعة أسئلة يناقشونها في أنفسهم، أهمها:

1- هل يدعو القرآن إلى العبودية والخضوع لإنسان مثلنا؟

2- أيأمر بالظلم والاستبداد , أو بالعدل والمشاركة في الأمر؟

3- هل سمح لنا بإشباع غرائزنا وحاجاتنا النفسية والجسمية؟

4- هل دعوته عرقية، طائفية؟

5- هل يدعو إلى التوازن والصلاح على صعيد البيئة والمجتمع؟

6- هل يدعو إلى الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة؟

7- هل يفضي تطبيق شرعه إلى إحلال الأمن والسلام والسعادة؟

8- هل أوجد أجوبة للأسئلة الكبرى الثلاثة: ( كيف , لماذا , أين )بصورة علمية وعقلية موافقة للفطرة؟

9- هل أخباره مطابقة للحقيقة بأبعاده الثلاثة:  الماضي, والحاضر, والمستقبل؟

10-هل يوافق محتواه العلم مهما تطور مع الزمن؟

11- هل يحقق مصلحة المجتمع والفرد؟

12- هل ثبت تناقضه للعلم أو الواقع مرة واحدة خلال الفترة الزمنية الطويلة؟

13- هل استطاع أحد أن يأتي بمثله خلال الفترة الزمنية السابقة رغم وجود التحدي والدافع؟

14- هل أصاب النص القرآني منذ بدايته إلى زمننا هذا أي تحريف أو تلاعب في مادته؟

15- هل يسمح بطاعة أحد خلاف الحق والعلم؟

16- هل هو منسجم ومتواصل مع الكتب الإلهية السابقة في خطوطها العريضة؟

17- السحر خداع أو إيقاع الأذى والشر بالناس، فهل القرآن سحر!؟

18- الشعر نظام خاص لصياغة الكلام ملتزم بقافية ووزن ويقوم على الترادف والمجاز، فهل القرآن شعر؟

19- الهلوسة والهذيان مرض نفسي يصيب الإنسان, ويظهر من خلال اضطراب في سلوكه ومخالفته للواقع, وصدور ألفاظ لا معنى لها، فهل القرآن هلوسة و هذيان؟

20 – من الطبيعي أن يعزو الإنسان العمل العظيم لنفسه. فهل عزا النبي محمد القرآن لنفسه؟

21 – نزل القرآن مفرقاً خلال ثلاثة وعشرين عاماً وحافظ على مستوى قوة الأسلوب, وصدق أخباره، وتماسكه المنطقي والمعلوماتي، ومن المعلوم أن الإنسان يتغير ويتطور أسلوبه كلما تقدم العمر به، فهل أصاب النص القرآني أي تغير أو تعديل خلال مدة نزوله الطويلة؟

22 –  هل يسمح الشرع القرآني بنكاح الأم والأخت والبنت، والمحارم عامة!؟

23- هل يسمح بالقتل وسفك الدماء وانتهاك أعراض الناس؟

24- هل يسمح بأكل حقوق الناس وسرقتهم والكذب عليهم؟

25- هل يطلب من الناس زهق حياتهم أو الإضرار بها؟

إن إيجاد الجواب على مضمون هذه الأسئلة يوصل الإنسان إلى الحكم والقرار القطعي على مصدرية القرآن، وهذه مهمة مناطة بك أيها القارئ العزيز.

أما صفة الإكمال للدين بواسطة القرآن فقد تأتت بسبب وصول الإنسانية إلى  سن الوعي وبداية الرشد،واكتمال اللسان العربي نظاماً، فاقتضى ذلك رفع الوصاية الإلهية المباشرة عن الناس، وتحميلهم مسؤولية قيادة أنفسهم وفق تعاليم القرآن العامة والكلية، مع إعطاء الإنسان حرية التحرك ضمن حدوده التشريعية، ومثل ذلك كمثل اكتمال أبجدية اللسان العربي, فهي من حيث عدد الأحرف قد اكتملت, ولا يمكن أن يزيد أحد عليها أي حرف, وذلك لاكتمالها بما يلبي حاجات ورغبات المجتمع الإنساني، ويملك الإنسان طيفاً واسعاً يتيح له  استخدام الأحرف حسب ما يريد. معبراً عن كل ما يريد، ومثل ذلك أيضاً كمثل النظام العشري للأعداد, فهو نظام ثابت مع قدرة الإنسان على استخدامه بصورة لا متناهية، صعوداً ونزولاً في شؤون حياته كلها.

والشرع القرآني شرع حدودي كلي ثابت, ترك للإنسان إمكانية التحرك ضمن حدوده بصورة لا متناهية, ليختار الصورة التي تناسب واقعه الزمكاني, ولكل مجتمع تفاعله الخاص مع القرآن ضمن حدوده، ( ثبات المبنى والمفهوم، وتحرك الصورة والاستخدام).

فصفة الإكمال للشرع الإلهي الذي نزل في القرآن ليست مسألة إيمانية فحسب, وإنما هي مسألة واقعية أيضاً, فمن يستطيع أن يملأ كأساً ممتلئاً بالماء أصلاً؟ وهكذا الشرع القرآني، فهو شرع حدودي كامل قد تناول كل ما يتعلق بالإنسان والمجتمع خلال الزمان والمكان، ومن يستطع أن يأتي بشرع أحسن للناس فليفعل!.

   أيها الشباب! هلمّوا إلى القرآن تفاعلاً وفاعلية, لا تدعوا أحداً ينصب نفسه وسيطاً بينكم وبين القرآن, لا للآبائية, ولا للأكثرية, ولا للزعامات, ولا لرجال الدين!، ولا للترادف في الخطاب القرءاني، ولا للمجاز ، ولا للاعتباطية في نشأة اللسان، ولا للمثناة التي استكتبها المسلمون مع كتاب الله.                    

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } (البقرة 170)

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (يونس 15) 

دمشق /2008/نشر في مجلة شبابلك في دمشق