التّفكير (يتفكرون)

إن التّفكير في الاستخدام القرآني، لم يأت ـ أيضاً ـ بصيغة الاسم، وإنَّما أتى بصيغة الفعل [ فكَّر، تتفكرون، يتفكرون ] وذلك ليدل على أنَّ التّفكير هو فعل، وليس مجرد صفة يمتلكها الإنسان، فالمفكر قيمته الحقيقية في عملية تفكيره، وما يصدر عنه من أفكار، فإذا انتفى عنه الجانب العملي فقد الجانب النّظري قيمته، نحو غياب الفعل عن الفاعل(1) فإن ذلك يسلب منه فاعليته ـ في الواقع ـ ويصير مثله كمثل العاطل تماماً، من حيث النّتيجة؛ لذلك قيل: قيمة الإنسان ما يتقنه، ويحسنه من العمل؛ فانظر ما هي قيمتك في المجتمع ؟فماذا تعني كلمة (فكَّر) ؟إذا أزلنا حرف الرّاء من كلمة (فكر) تصير (فك) وضدها مبنى ومعنى، كلمة (كف) فماذا تدل كلمة (كف) ؟ك: حرف يدل على قطع أو ضغط خفيف.ف: حرف يدل على فتور وفتح خفيف متضام.فتكون دلالة كلمة (كف) هي حركة متجهة نحو الدّاخل، على الشّيء نفسه نحو قولنا: كُفّوا أيديكم، وقولنا: كُفَّ الثّياب.ومن ثمَّ، تكون دلالة كلمة (فك) اتِّجاه من الدّاخل إلى الخارج، وإضافة حرف (الرّاء) لكليهما، يُعطي صفة الاستمرار، في دلالة كل منهما في الواقع.فك: فكر: كلمة تدل على استمرار حدوث الحركة، من الدّاخل إلى الخارج، (انفتاح).كف: كفر: كلمة تدل على استمرار حدوث الحركة، من الخارج إلى الدّاخل، (انغلاق).فالفكر انفتاح على الواقع، والكفر انغلاق على ما بداخلنا.ومن هذا الوجه، أُطلق على الفلاح صفة (الكافر)؛ لأنه يقوم بعملية تغطية البذور وسترها، في التّربة { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } (الحديد 20). ويُقال للأرض المنخفضة، أو الممتلئة بالأشجار (كَفْرْ)؛ لأنها تُغطي وتستر من بداخلها.أما كلمة (تفكير) فقد أضيف لأولها حرف (التّاء)؛ ليعطيها دلالة الجهد في عملية الانفتاح على الواقع، وجاء حرف (الياء) بعد عملية الانفتاح (ك)؛ ليعطيها دلالة البُعد الزّمني، وهذا إشارة إلى أهمية الوقت، في عملية التّفكير -الدّراسة والبحث ـ وجاء حرف (الرّاء)؛ ليعطي لعملية التّفكير صفة الاستمرار والتّكرار، لما سبق من الخطوات.لاحظ، من خلال تحليل دلالة كلمة (تفكير) ظهرت لدينا مسائل، وهي:1 ـ بذل الجهد في تحصيل المعلومات، عن الشّيء المعني بالدّراسة، وهذا دلالة حرف (التّاء).2 ـ ضم المعلومات إلى بعضها، بصُورة متجانسة مع عدم القطع بصوابها وحفظ خط الرّجعة (الفاء).3 ـ التوقف والتأكد من المعلومات، وعدم استبعاد أي معلومات متعلقة بالموضوع (الكاف).4 ـ أخذ الوقت الكافي للدّراسة، ومراجعة النّتائج، وعلاقتها بالمقدمات (الياء).5ـ الالتزام بالأمور الأربعة، بصُورة مستمرة ومكررة، وعدم الوقوف أبداً (الرّاء).فالتّفكير، هو عملية راقية يأتي دورها في الواقع بعد عملية التّعقل، ومن ثمَّ، فهو مرحلة لاحقة له. قال تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران 191).فالتّفكير هو استكمال للمعرفة النّاقصة، وتحليل وتركيب، واستنتاج واستقراء، واستنباط، واستنبات للمجهول من المعلوم، لمعالجة الحاضر والتّحكم بالمستقبل.إن التّفكير يخرج من الفكر، والفكر يولد الفكر، والفكر يشع نوراً، والنّور يضيء الظّلمات؛ ليعيش النّاس في سلام وأمان منفتحين على بعضهم، الجميع يرى الجميع، لا يصطدم أحد بأحد، لا يعتدي أحد على أحد، لأنَّ الفكر يشع نوراً، والنّور يضيء للجميع طريقهم، الكل يعرف ماذا له من حُقُوق، وماذا عليه من واجبات، ويسير منطلقاً من واجباته ليحصل على حقوقه.التّكفير؛ يخرج منه الكفر، والكفر يُوَلِّد الحقد والكراهية، وبدورهما يولدان العدوان، الذي يُولد الظّلم، ويصير ظلمات، لا يرى الإنسان فيها إلا نفسه، والكل يصطدم ببعضه بعضاً، ويفتكون بمن يقع أرضاً دوساً وقهراً، ويتخبطون في بحر الظّلمات، لا يعرفون منه مخرجاً ولا اتِّجاهاً، يدورون حول أنفسهم كارهين لها، ولمن حولهم، يلعن بعضهم بعضاً، إنه التّكفير الذي يُولَد منه الكفر.فشتان ما بين التّفكير والتّكفير، والفكر والكفر، والنّور والظّلمات، والانفتاح على الآخرين، والانغلاق على ما بأنفسنا، هل يستويان ؟!.