الظاهر والباطن

{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

(الحديد 3).

إن مفهوم الظاهر والباطن من المفاهيم التي تناولها المسلمون كل حسب مرجعيته، فمنهم من أنكر هذا المفهوم من أساسه وذلك كردة فعل عاطفية على من أثبت هذا المفهوم واستخدمه دون ضوابط وخرج بشطحات بعيدة جداً عن روح النص ومقصده، ومنهم من قام بتوظيف النص توظيفاً سياسياً من خلال مفهوم الباطن فجعله ينطق بأمور ليست هي في الواقع من وظيفة النص أصلاً. وقد نقل لنا التراث كل هذه الاختلافات والتباين بالرأي والموقف من مفهوم الظاهر والباطن، وكانت الدراسات المعاصرة امتداداً لهذه الآراء والمواقف ولم يكن لها موقف جديد يعتد به يضاف إلى الآراء الموجودة.

ومن هذا الوجه تظهر الحاجة الملحة لدراسة هذا المفهوم من خلال قراءة معاصرة للقرآن دون خوف أو وجل من سلطة السلف مجتمعين على مختلف مواقفهم وآرائهم.

فقوله تعالى : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ }

إشارة إلى وجود الله عز وجل حيث كان ولا شيء معه ومن ثم ابتدأ خلق الخلق بقدرته فالوجود الحقيقي الذاتي لم يكن إلا للخالق المدبر فقط لا غير وكل ما سواه إنما يستمد وجوده واستمراره من الأول حيث يستمر ظهور أسماء الأول في كل شيء يوجده، وبالتالي لا وجود حقيقي ذاتي لأحد غير الله عز وجل، وكون الأول يتجلى وجوده بفعله كان ظاهراً في كل شيء ، ومن هذا الوجه صح قول من قال: لم أنظر إلى شيء إلا ووجدت الله قبله وبعده. وهذا كلام عميق لأن صاحب الكلام كان يتجاوز ظاهر الشيء إلى عمقه وربطه بما قبله وما بعده فيصل إلى أن الله هو الخالق المدبر لهذا الشيء، وأن هذا الشيء سوف يؤول إلى خالقه آجلاً. والأحسن من هذا الكلام هو أن الله قبل الشيء ومعه وبعده. لأن الشيء يستمد وجوده واستمراره من الله عز وجل، فالخالق يتجلى للوجود من خلال خلقه الذي هم فعله(الإيجاد والإمداد)، لذا كان الخلق الفضاء الخصب لدراسة أفعال الخالق، ومن هذا الوجه صدق من قال: اعلم نفسك تعلم ربك.

أما مجيء كلمة الآخر بعد الأول فذلك لإثبات الأولية دون تعدد لأن الله أحد صمد فعندما نذكر الأول يجب أن نلحقها بالآخر حتى ننهي الكلام ولا يفهم أحد أن هناك إمكانية لاستمرار التعداد بقولنا ثاني وثالث ورابع.. إلخ. فكانت كلمة الآخر هي إعطاء الاستمرار للأولية إلى أن تكون هي نفسها الآخر، وبذلك كان الوجود الأحدي الصمدي هو الوجود الذاتي الحقيقي وما سواه من المخلوقات فوجودها مستمد من الأول مع قيام الأول بنفسه وظهوره في كل شيء حتى يكون هو الآخر.

أما قوله : { وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ }

فهو وصف لهذا الوجود القائم على صفتي الظاهر والباطن ولا يوجد أي مبرر لإنكار هذين الاسمين لأن ذلك الفعل هو مكابرة للحس والواقع، فالخلق قائم على قانون الزوجية أو الثنائية فإثبات صفة على حدة يكون ذلك بالوقت نفسه إثبات لضدها ضرورة، فعندما نقول على سبيل المثال: هذا ماء حار. نكون ضمناً أخبرنا السامع بوجود ماء بارد، وكذلك قولنا: هذه المادة صلبة. نكون ضمناً أخبرنا السامع بوجود مادة لينة لأن الشيء يستمد وجوده واستمراره من ضده وكلاهما زوجان، والواحد منهما اسمه زوج لأن وجود الزوج الآخر ضرورة لازمة له، نحو الذكر فهو زوج الأنثى في واقع الحال، وكذلك الأنثى هي زوج الذكر في واقع الحال، فإذا تمَّ التزاوج بينهما نقول: زوجين . لاجتماع كل زوج بضده.

فمن يثبت صفة الظاهر لشيء يكون بالوقت نفسه أثبت صفة الباطن ضرورة وإلا انتفت صفة الظاهر، لأنه لولا صفة الباطن لما كان هناك صفة الظاهر، ولولا صفة الظاهر لما كان هناك صفة الباطن، فكلاهما زوج للآخر قائم به. قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }الذاريات 49

وكتاب الله عز وجل هو شيء ينطبق عليه قانون الزوجية كونه متعلقاً بالواقع – آفاق وأنفس – وبالتالي فله ظاهر وباطن قائمان ببعضهما بعضاً لا ينفكان أبداً، وأي محاولة لفهم النص ببُعد دون الآخر سواء أكان الظاهر فقط أم الباطن فهي محاولة فاشلة ولن يكتب لها النجاح وهذه الصفة الزوجية – الظاهر والباطن – لا يصح استخدامها إلا لفعل الله عز وجل – آفاق وأنفس وكلامه – بخلاف أفعال الناس فيتم التعامل معهم حسب الظاهر لعدم قدرة الناس على معرفة بواطن بعضهم ولعدم قدرة الإنسان على صياغة الكلام وهو مستحضر لكل أبعاده.

قد يقول قائل: إذا كان الإنسان يجهل باطن كلام الآخر فكيف يستطيع أن يعلم باطن كلام الله؟

فنقول: إن كلام الله عز وجل مرتبط بالواقع ارتباط اللازم بالملزوم فمعرفة باطن كلام الله إنما يكون من خلال دراسة محل تعلق الخطاب من الواقع فعندما يتكلم الله عز وجل عن السماء والأرض فمعرفة باطن هذا الكلام إنما هو بالتعمق والغوص في معرفة حقيقة وجود السماء والأرض في واقع الحال، إذاً الولوج في باطن الكلام الإلهي ليس موجهاً إلى ذات الله عز وجل وإنما هو موجه إلى أفعاله التي تكلم عنها النص وهي خارجه.

فلذا كان التفكير بالشيء دائماً مرتبطاً بالواقع  – آفاق وأنفس – لأنهما السكة التي يمشي عليها العقل، ومن هذا الوجه صح القول الذي يقول: لا تفكروا بذات الله وإنما فكروا بخلقه. وذلك لأن ذات الله عز وجل ليست هي شيئاً بالنسبة للعقل بمعنى أنها لم تتشيأ في العقل فتصبح مادة للدراسة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 بخلاف وجوده كخالق مدبر فهذا المفهوم تشيأ في الذهن وأصبح شيئاً قابلاً للدراسة وذلك من خلال الأشياء – المخلوقات – (1).

وقراءة النص الإلهي في الواقع لا يمكن أن تتم إلا بالبعدين معاً  الظاهر والباطن  وهذه القراءة لا بد لها من أســـس تقوم عليهــا ومن أهمها:

1- أن يكون النص إلهي المصدر. وهذا محصور في نص الكتاب فقط كونه الوحي الذي نزل على الرسول)1 (

2- أن يُفهم النص حسب منظومته من النصوص الأخرى، وذلك من خلال عملية ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد وترتيبها حسب منظور علمي.

3- أن يفهم النص حسب النصوص المحكمة.

4- أن يفهم النص حسب أوجه اللسانية العربية لا يخرج عنها.

5- أن يفهم النص بشكل تزاوج بين ظاهره وباطنه.

6- أن يفهم النص من خلال إسقاطه على محل تعلقه من الواقع المعني بالنص.

7- أن يفهم النص حسب الأدوات المعرفية لكل مجتمع

8 – أن يفهم النص ضمن منظومة الأحكام الكلية والمقاصد.

وبناء على ما تمَّ طرحه يكون النقاش والحوار في مسألة الظاهر والباطن للنص القرآني قائماً ابتداء على مفهوم الإيمان بمصدرية النص، لأن نفي مصدريته الإلهية ينفي الحاجة لدراسته من منطلق الظاهر والباطن والقراءة المعاصرة له، لأنه يصبح نصاً بشرياً غير ملزم ولا يهمنا أمره سوى من كونه تراثاً لنا.

فيكون المقصد من قوله تعالى:

{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

أن الله الأحد الصمد عالم بظواهر الأشياء وباطنها والعلاقة بينهما لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذا شيء طبيعي لأن الخلق فعله    {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك 14

وكذلك يشير النص إلى أن لولا الباطن لما وجد الظاهر، والباطن هو الله الخالق المدبر، والظاهر فعله، ومن هذا الوجه كان الظاهر دليلاً على الباطن، والباطن سبباً لوجود الظاهر.

(1)- راجع كتابي الألوهية والحاكمية فصل تفسير [ليس كمثله شيء].

)1 ( – راجع كتابي تحرير العقل من النقل.