كتاب الله وأسباب النزول

إن كتاب الله عز وجل يحتوي على الرسالة الكاملة الجامعة للشرائع السابقة وهذا يقتضي اتصافها بالديمومة والإنسانية والحدودية والعالمية، وكون الأمر كذلك فالنص التشريعي بطبيعة الحال موجه إلى كل المجتمعات الإنسانية عبر الزمان والمكان، وهذا التوجه يقتضي أن يكون النص الإلهي حجة بذاته غير مقيد بفهم أي مجتمع ومتحرر من الظروف الزمكانية التي وافقت زمن نزول النص الإلهي.

ومن هذا الوجه قال العلماء: العبرة بعموم النص وليس بخصوص السبب.

وذلك لأن التشريع الإلهي سوف ينزل لا محالة سأل عن ذلك بعض الناس في وقت نزول الوحي أم لم يسألوا، فالتشريع كمضمون قائم كامل في علم الله الفعلي)1 (وليس اكتسابياً أو يخضع لعملية الدراسة والاستقراء.

ومن هذا الوجه لا يصح استخدام كلمة (سبب) على نزول التشريع الإلهي، لأن السبب هو: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. وهذا غير منطبق على التشريع لأنه سوف ينزل لا محالة كونه تشريعاً إنسانياً عالمياً وليس قومياً عينياً، والأصح إطلاق كلمة تاريخية نزول التشريع التي تفيد دلالة الوقت والحدث المناسب الذي تمَّ اختياره من قبل الخالق لينزل النص التشريعي بصياغة مناسبة فوراً لأن النص التشريعي ليس للتلاوة إنما هو تشريع للواقع الاجتماعي، ومن هذا الوجه ارتبطت أحداث معينة بنزول النص التشريعي ليس كسبب نزول له وإنما كظرف مناسب لإنزال النص الإلهي إلى حيز التطبيق العملي، ولو قال قائل إن هناك نصوصاً نزلت بناء على سؤال من الناس أو ارتبطت بأحداث معينة فكيف لا يكون ذلك سبباً لنزولها؟  والجواب أن مضمون النص كحكم قائم في علم الله ليس كصياغة لسانية وغير مرتبط بالأحداث كون الحكم إنسانياً في توجهه وعالمياً في حركته ومتحققة فيه صفة الديمومة   – السيرورة والصيرورة – وكل ما في الأمر أن هذا الحكم جعله الله عز وجل بنص لساني متزامن مع حدث حتى يتم تطبيق النص مباشرة كون مادة التشريع تظهر أثناء حركة المجتمع ومعاناته.

لذا فمفهوم أسباب النزول يجب أن يُلغى ويوضع مكانه مفهوم تاريخية النزول، وبالتالي يفهم الدارس لهذا الموضوع من العنوان ابتداء أنه يدرس الظروف والحيثيات الزمكانية للمجتمع الذي تمت فيه صياغة ونزول النص الإلهي، وَيُعَدُّ فهم المجتمع الأول للنص هو الاحتمال الذي ارتضاه المجتمع لحل مشاكله وتنظيم حياته وذلك إذا كان النص احتمالي الفهم ويسمح بالحركة ضمن نزوله في منظومته التي ينتمي إليها هذا النص.

وهذا الكلام يوصلنا إلى أن تاريخية نزول التشريع سواء أكان متزامناً مع حدث بعينه مناسباً لاختيار نزول النص لحيز التطبيق وهذا الجانب محل أخذ ورد من قبل العلماء وذلك لوجود عملية الوضع والدس أم مناسباً كظرف اجتماعي ككل، فالأمر سواء لأن النص التشريعي حجة بذاته وهو موجه لكل مجتمع على حدة لا علاقة لتفاعل المجتمع السابق بتفاعل المجتمع اللاحق إلا من كونه تفاعلاً تاريخياً، وبالتالي هو تراث ثقافي يدرس من هذا الوجه، وتتم عملية فرزه حسب الأدوات المعرفية المستجدة ليستمر ما ثبت صلاحيته ويستبعد ما لم يثبت صلاحيته ومناسبته لنا مع قيامنا بالتفاعل المباشر مع النص الإلهي كوننا معنيين بالخطاب ونقوم بتفعيل النص والتحليق بفضاء دلالاته متجاوزين ألفاظه إلى مقاصده وذلك من خلال إسقاطه على محل خطابه من الواقع معتمدين بفهمه على منظومته الكلية التي ينتمي إليها الحكم ضمن المنظومة العامة للتشريع ومتحركين بالصلاحية التي منحنا الله إياها (الخلافة في الأرض) ضمن حدود الله عز وجل لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع والسعادة للفرد بشكل نسبي ضمن الإمكانيات المعرفية والمادية للمجتمع. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }الزمر55، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر18

)1 ( – راجع كتابي: علم الله وحرية الإنسان وكتابي الألوهية والحاكمية بحث مفهوم الأزلية.