الصلاة التعبدية حكم قرءاني وسنة متتابعة في الأمة

    يوجد بعض الأخوة المحسوبين على المدرسة القرءانية ينكرون الصلاة التعبدية  برمتها أو ينكرون بعضها  بحجة أن القرءان لم يذكر تفاصيلها وينبغي أن نتقيد بالقرءان فقط، وكل من يقول بثبوتها على ماهي معروفة في الأمة يكون قد خرج عن القرءان وخالف منهجه ونقض دعوته القرءانية .

كما أن جمهور المسلمين من عباد المثناة يأتون بكيفية الصلاة والحج كتفاصيل لنقض مفهوم إن الحكم إلا لله ، والمصدر التشريعي هو القرءان فقط ، وذلك لإثبات ان الحديث النبوي مصدر تشريعي إلهي ، ولكن نزل خارج القرءان والنبي قام بتأليف المبنى، ويقدمون هذا المفهوم تحت مسمى السنة تدليساً أو جهلاً منهم في الفرق بين السنة و الحديث.

وكلا الطرفين مغالين ومتطرفين في تعاملهم مع القرءان ، ولنقوم بتحليل المفاهيم التي يتعاملون بها كلاهما

1- {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }الأنعام57، ولذلك  ينبغي أن يعلم الطرفان أن القرءان مصدر تشريعي يحتوي الحرام و الحلال والواجب الديني، ولم يأت خارجه أي تشريع قط ، ولم ينزل بعده أو معه ملحق أو مستدرك عليه ، وهذا الأمر من أبجدية الدين الإسلامي، وأي مسلم يتلو القرءان يشاهد عشرات النصوص التي تثبت هذا المفهوم( لاحكم إلا لله ) وهذا الحكم الإلهي نزل بالقرءان فقط وهو المعني بالحفظ والصلاحية و الاتباع .

2- مفهوم الاتباع

الطرف الاول ينكرون مفهوم الاتباع كله ويعدونه مذموماً ويأتون بنص {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }البقرة170

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }الزخرف22

وبجهل منهم أو تغافل يعممون هذا المفهوم للاتباع على كل شيء ويقولون اتباع الآباء مذموم ، وبالتالي لانأخذ منهم لاهيئة صلاة ولاحج لأن هذا لم ينزل بالقرءان .

ونقول لهم بمختصر مفيد : إن الاتباع المذموم هو الاتباع المتعلق بالحكم على الأمور حق أوباطل دون برهان وبينة ، أو ممارسة السوء والفحشاء والمنكر، بينما الاتباع للآباء في العادات و التقاليد ضمن دائرة المباح شرعاً كالعادات والفنون هو أمر مباح ومتروك للناس الحرية بذلك ، وهذا ليس محل نقاش أو اختلاف رغم أنه اتباع للآباء ، والأمر الثاني وهو محل النقاش، الاتباع للآباء في تطبيق حكم تعبدي لله  هو من الاتباع المحمود بل؛ هو أمر من الله ، والنص الذي ذكروه في البدء صرح بجملة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) فنحن نقول لهم اتبعوا ماأنزل الله في كتابه وطبقه الرسول ومعه المجتمع كسنة تعبدية متتابعة  ، ولم نطلب منهم الاتباع المناقض لما أنزل الله ، هذه مسألة ينبغي فهمها ، فاتباع الآباء يكون بعد ثبوت الحكم في كتاب الله ويكون اتباعهم ليس تشريعاً لحكم شرعي وإنما تنفيذاً لحكم شرعي تعبدي، ألا يوجد فرق بين القول:  اتباع الآباء بشكل مناقض لما أنزل الله، وهو اتباع مذموم، والقول: اتباع الآباء فيما نزل في كتاب الله، وهو قول محمود.

ألم يأمرنا الله أن نتبع الناس في أمر أراده من طريقة معينة أو حدث ثابت أو تعليم  أنزله قديماً على الناس ولم ينزل في القرءان وهو ليس حكماً على حق أو باطل ، انتبهوا ، وليس حكما في حرام وحلال ، هو أمر فلنسمه اصطلاحاً أمر إداري أو شكلي أو تنظيمي، لنقرأ: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }البقرة199، الإفاضة في الحج حدده الله من حيث يفيض الناس، أليس هذا اتباع للناس فيما أنزل الله ؟ هل هذا الاتباع تشريع في الحرام أو الحلال ، أو حكم على حق أو باطل؟

إنه اتباع محمود للناس في اتباعهم لما أنزل الله وارتضاه من عمل تنظيمي.

وهذا الاتباع متعلق بسنة عملية تعبدية تعتمد على ما أنزل الله بداية وممارسة دون انقطاع خلال التاريخ حيث صارت ظاهرة اجتماعية على مستوى الأمة  لاسند لها ولاعنعنة ولارواية واسمها سنة متتابعة وليس حديثاً متواتراً متعلق بسند مهما كثر هؤلاء الرواة فهم في النهاية سند ورواة .

أما الفريق الآخر عباد المثناة  فيخلطون بين مفهوم السنة والحديث،  ويعاملون الحديث المعنعن وكأنه سنة متتابعة ، ويدلسون على الأمة ويأمرونهم باتباع السنة ويعرضون عليهم الحديث بدل السنة  بغباء أو تجاهل مقصود منهم، فالسنة هي طريقة عملية مستمرة مثل سنة الله في الخلق، والحديث هو قول جديد لايمكن أن يستمر ويمارس عملياً ويخضع للرواةو العنعنة والتحريف والتغيير ، وهذا بخلاف الخطاب القرءاني فهو صار بمثابة السنة من حيث تتابعه في الأمة عملياً وممارسة تلاوة وحفظاً وتعبداً ودراسة وتدبراً وكتابة لذلك لاسند له ولاعنعنة ولارواة .

فكما رأيتم نحن نتبع السنة العملية التعبدية المتتابعة بالأمة وهي متعلقة بما أنزل الله في كتابه وليس هي مصدراً تشريعياً ، أما الحديث المنسوب للنبي فهو روايات وقيل وقالوا عن فلان عن فلان فهو ليس ما أنزل الله ، وليس هو مصدراً تشريعياً ولو صح كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي وفق منهج علمي قرءاني ولكن لاتتجاوز القرءان ولاتسبقه ولاتستقل بالتشريع عنه فهي محاكاة له كوعظ وتعليم مثل الأمر ببر الوالدين وكفالة اليتامى وماشابه ذلك ، فمن أخذ بالحديث فبها ونعمت وفق هذا الكلام،  ومن لم يأخذ به واكتفى بالقرءان فهو كافيه. ومن أخذ بالأحاديث المتعلقة بالتعبد في الصلاة والحج كأذكار وتلاوات فلابأس به، ومن تأول القرءان بنفسه واختار منه أذكار لصلاته وحجه فلابأس به أيضاً،  وكذلك الاختلاف بجزئيات الصلاة من حيث وضع اليدين على الصدر أو إسبالهما على جنب أو تلاوة الفاتحة  والقول آمين والتشهد في الجلوس  وغير ذلك كلها ليس من أركان الصلاة وكلها مقبولة وهي من اختلاف التنوع وليس اختلاف التناقض ، فلا يعترض أحد على أحد، وليصلي الجميع وراء بعضهم بعضاً ، سنة الصلاة المتتابعة معروفة، ونزلت بالقرءان عموماً قيام وركوع وسجود ونظَّم ذلك الرسول وحدد عدد الركعات وتوزيع الصلوات على اليوم والليلة سواء من فهم قرءاني أو وحي تعليمي أو كلاهما

3-   هل القرءان هو الوحي الوحيد الذي نزل على الرسول محمد؟

النبي محمد لم يصر نبياً إلا باصطفاء من الله بواسطة الوحي له، وكان الوحي مستمراً في النزول عليه توفيقاً وتعليماً وتأييداً وإخباراً غير وحي القرءان ، وإلا كيف صار نبياً واستمر في هذا  المقام؟

لنقرأ كيف أنه يوجد وحي آخر غير القرءان :

{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ }التحريم3

هذا النص برهان على أن النبي كان يتلقى الوحي خارج القرءان وانتبهوا لنوع الوحي وتعلقه بمقام النبوة وليس بالرسالة ، بمعنى ليس أحكام شرعية متعلقة بالناس يجب تبليغها لهم وإنما هي وحي خاص للنبي

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }الأحزاب37

حكم محارم النكاح مذكور بنص رسالي ثابت معروف تضمن تحريم زوجة الابن من الصلب {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء23، وهذا يعني أن زوجة الابن من غير الصلب حلال كونها لم تأت ضمن دائرة المحارم .

مما يؤكد أن نص ( طلاق زيد وزواج النبي من زوجته) قد نزل الأمر بها خارج القرءان والنبي حاول أن يؤخر هذا الزواج ما استطاع من خلال محالوة تأخير طلاق زيد لها ، والذي يهمنا  من القصة أن الوحي نزل على النبي خارج القرءان لأنه ليس تشريعاً في مقام الرسالة للناس جميعاً، ونزل في القرءان فيما بعد  لدعم موقف النبي هذا أمام الرأي العام حينئذ الذي يحرم الزواج من حليلة الابن بالتبني.

وكذلك نص تغيير جهة القبلة  نزل خارج القرءان لأنه أمر خاص للنبي وقومه وليس لمن بعده ويريد الله أن ينسخه ، وفعلا نزل نسخه بالأمر بالتوجه للقبلة الأولى الكعبة ورجعت القبلة لعهدها الأول ، فالنسخ حصل بأمر قرءاني لأمر نزل خارج القرءان ، أما في القرءان ذاته فلايوجد نسخ لأي أمر نزل به إذاً، يوجد وحي ينزل على النبي خارج القرءان ولكنه ليس وحياً تشريعياً للناس جميعا ً وإنما وحياً خاصا ً كتأييد له أو إخبار أو تعليم له أو لأمته، ومن هذا الوجه نقول: إن  تفاصيل الصلاة العملية وليس الفرعية الجزئية هي تعليم من الله بالوحي وكذلك الحج سواء بتدبر النبي للقرءان وتوفيقه من الله للعلم به أو نزول الوحي نفسه وتعليمه هذا عملياً  فالأمر سواء، فقد  قام النبي بتطبيق الأمر بالصلاة عملياً وعلَّم المجتمع حينئذ وتتابع هذا الأمر إلى وقتنا المعاصر ومازال يتتابع كسنة عملية  فوق السند والعنعنة ولايوجد منِّية لأحد في تتابع الصلاة والحج.

لذلك ينبغي على الفريق الأول أن لا ينكر هذا الوحي التعليمي العملي خارج القرءان ، وعلى الفريق الثاني أن يفهم أن الحديث النبوي ليس وحياً تشريعياً  وما كان منه وحياً فهو وحي خارج القرءان كخبر أو نبأ أو تأييد  خاص للنبي ولقومه إن لم يكن من سنة العبادات فهو غير ملزم لمن بعد النبي من المجتمعات اللاحقة

فعلى الفريق الأول المنسوب للقرءانيين أن يكفوا عن غلوهم وتطرفهم وعدم إنكار الصلاة و الحج بحجة متهافتة، وعدم نقاش هذا الأمر فيما بعد وجعله محل تسليم واتباع، وتوقيف التشويش على المسلمين.

وعلى الفريق الثاني عباد المثناة أن يكفوا عن جعل الحديث النبوي وحياً تشريعياً يزاحم كتاب الله، والتفريق بين مفهوم السنة التعبدية  المتتابعة ومفهوم الحديث النبوي، وعدم عرض تفاصيل الصلاة و أو الحج كمثل برهاني على مصدرية الحديث النبوي كتشريع .

فكلا الطرفين غلاة ومتطرفين وجهلة في تعاملهم مع القرءان وتدبره