الروح في القرءان

بعد أن درسنا الرّوح في اللسان والواقع، وعلمنا أنَّ الرّوح غير الحياة، وأنه أعم منها، و أن الموت يُقابل الحياة، وليس الرّوح، وعلمنا أنَّ الرّوح هو نظام سنني،  يحكم المادَّة بصُورة لازمة، ومن ثم؛ فالكون هو كائن رحمادي، كما أنَّ الكائنات الحية، هي كائنات رحمادية أيضاً، من حيث الأصل، واستمرت كذلك، وأضيفت لها صفة الحياة.

نأتي الآن إلى كلمة الرّوح في الاستخدام القرآني؛  لنر كيف استخدمها، وبأي دلالة ؟

مع العلم ـ بداية ـ، أنه ينبغي عدم وجود خلاف بين الواقع، واللسان العربي، والقرآن في استخدام دلالة الكلمة، لأنَّ المصادر الثّلاثة مُرتبطة ببعضها؛ بعلاقة جدلية منسجمة كل الانسجام مع بعضهم.

قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } (الإسراء 85).

هذه الآية، هي أشهر نص في الاستخدام القرآني، التي يستدل بها بعض من يزعم أنَّ الرّوح مسألة غير قابلة للدّراسة، وهي سر غيبيّ، وهي أصل سر الحياة، وما شابه ذلك من أقوال سطحية.

والمدقق في نّص الآية، يلاحظ أنها جواب على سؤال، وُجِّه إلى النّبي محمد r،  والسّؤال لم يذكر لا من قريب، ولا من بعيد أن مدلول الرّوح في ذهن السّائلين هو سر الحياة، أما الوجه الآخر لنّص الآية، فهو أنه ليس من أسلوب القرآن غموض السّؤال، وغموض الجواب !، فهذا عبث، يُنزَّه النّص القرآني عنه، والوجه الأخير للموضوع، هو أنه ليس من أسلوب القرآن، أن لا يُعطي جواباً عن السّؤال، ويمنع التّعلم والدّراسة، وهو الذي يطالب بالعلم والتّفكير والتّعقل !.

انظر قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }  (البقرة 219).

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }  (البقرة 189).

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ }  (البقرة 222).

ونّصُّ الآية المعنيُّ بالدّراسة هو من هذا القبيل، سؤالٌ صريحٌ، وجوابٌ كافٍ شافٍ، ليس فيه نهي عن الخوض، في مادَّة السّؤال، أو هو سر غيبي لا يمكن أن يعلمه أحد، اقرأ النّص من جديد بنظرة أخرى ؟ ألا تجده على نمط الأسئلة السّابقة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } فهذا النّمط  من الأسئلة،  والجواب عليها، ليس مثل قوله تعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (الأعراف 187)

لاحظ  صراحة السّؤال، والعناية بالجواب، وتشجيع النّاس على أن يوجهوا أسئلتهم دون خوف أو خجل؛ لأن مفتاح العلم والمعرفة، هو السّؤال؛ لذلك ينبغي أخذ السّؤال بصُورة جدية، والقيام بالإجابة العلمية عليه؛ فنلاحظ أن الجواب أتى   ـ في النّص المعني بالدّراسة ـ بصيغة   { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}  بينما أتى جواب السّؤال عن وقت السّاعة بصيغة  {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}  وهناك  فرق  كبير في الدّلالة  بين جملة {مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وجملة {عِندَ رَبِّي} فالأولى لم تنف العلم، وإمكانيته عن النّاس، بل أخبرت أن ما تَسألون عنه هو من أمر الرّب  القابل للدّراسة والاكتشاف؛ لذلك أنهى الجواب بقوله{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}   إشارة إلى طلب الاستمرار في رحلة التّعلم والدّراسة؛ لكشف أمر الرّب في الأشياء، والأحداث كيف قامت (كينونة) ؟ وكيف استمرت (سيرورة وصيرورة) ؟، وما نصل إليه من عُلُوم، واكتشافات يبقى قليلاً بالنّسبة لما هو غير معلوم من أمر الرّب في الوُجُود لأننا نعيش في دائرة عالَم الشهادة التي هي في داخل عالَم الغيب الواسع المتنامي، بينما جواب السّؤال عن السّاعة؛ فقد أتى بنفي إمكانية العلم بوقتها صراحة، وأن ذلك موجود عند الرّب حصراً، ومن ثمَّ فأيُّ دراسة، أو بحث،  أو تفكير، في معرفة وقت إقامة السّاعة، هو مضيعة للوقت؛ لاستحالة الوُصُول إلى معرفتها، وذلك لنفي علاقة قيام الساعة بانتهاء عمر الكون الافتراضي، وقيامها مُرتهن بتدخل إلهي في عملية توقيف حركة الكون بغتة.

وأتى أمر الرّب في الاستخدام القرآني على حالتين:

الأولى: الأوامر الشّرعية؛ قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } (الأعراف 29).

{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ( يوسف 40).

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى }  (النّحل 90).

الثّانية: الأوامر الكونية، وهي الأحداث التي تجري في الواقع، على صعيد الآفاق والأنفس، ضمن سنن الله U قال تعالى:

{ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } (التّوبة 48).

{ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } (هود 43).

{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } (هود 76).

{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الأعراف 54).

فأوامر الرّب على وجهين: كوني، وشرعي.

الأول: يخضع النّاس له قهراً.

والثاني: يخضع النّاس له إيماناً واختياراً. 

والنّص المعني بالدّراسة، ذكر أنَّ الرّوح من أمر الرّب، ممَّا يُؤكِّد ما ذهبنا إليه سابقاً، من أنَّ الرّوح، هو الجانب العلمي السّنني للشّيء؛ لأن أمر الرّب ـ في الواقع ـ له جانبان:

الأول: الجانب النّظري (العلمي والتّشريعي) عالَم الأمر.

والآخر: حصوله في الواقع بصُورة موضوعية عالَم الخلق.

وهذا واضح في قوله تعالى { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فالخلق هو الجانب المادِّي،  والأمر هو الجانب المخفي؛ الذي يحكم المادَّة، فعملية الخلق مُرتبطة بالأمر؛ انظر قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (البقرة 117)، فيكون الجانب العلمي المتعلق بأمر الله،  هو المقصود بكلمة الرّوح، حيث أتت في النّص بصيغة من أمر الرّب، و( من) دلالتها التبعيض، وبقية أمر الرّب  هو الجانب المادِّي للأمر الإلهي؛ فيكون المقصود من السّؤال{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } سؤال عن الجانب المخفي، الذي يحكم الأحداث والأشياء، فكان الجواب {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ،  المُرتبط بالوُجُود المادِّي، فإذا درستم هذا الجانب المادِّي تصلون إلى الرّوح الذي يتحكم في حركة المادَّة وبُنيتها، فتكتمل عندكم صّورة الشّيء المدروس، مادَّة وروحاً، وبذلك تكونون قد وصلتم إلى معرفة أمر من أوامر الرّب، في الوُجُود الرّحمادي.

ونتابع النظر في استخدام النّص القرآني لكلمة (الرّوح).

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (الشّورى 52).

وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } (غافر 15)  الملاحظ في النّصين، أن كلمة الرّوح أتت مُرتبطة بأمر الرّب، والمقصود به، هو مادَّة الوحي التي نزلت على النّبي؛ وليست هي إلا القرآن الذي جعله الله نوراً وهدى، ووصفه بالرّوح؛  لأنه يحتوي على مجموعة الأوامر الإلهية، المتعلقة بتنظيم حياة الفرد والمجتمع، التي يجب على الإنسان أن يُسَيِّر نفسه بها، وكذلك يحتوي على أوامر، متعلقةٍ بالآفاق والأنفس التي تُسَيِّرُ الإنسان،  حيث يصير عنده روحان؛ الأولى يُسَيّر نفسه بها إيماناً واختيارًا، و الثانية تُسَيّره نظاماً. 

والرّوح الشّرعية،  منسجمة مع الرّوح الكونية، ومتناغمة معها بصُورة متكاملة، فعندما يُعرض الإنسان عن الالتزام بالرّوح الشّرعية، يصير شاذاً في حركته، ومضطرباً في نفسه؛ لانتفاء التّناغم والانسجام مع الرّوح الكونية، والاجتماعية، والنّفسية،  التي تحكمه نظاماً؛ لأن كلا الرّوحين،  من أمر الرّب.