علاقة المشروع الإنساني بالمشروع الإلهي
يتردد سؤال على ألسنة كثير من الناس: لماذا خلقنا الله في الحياة الدنيا؟ وسرعان ما يسمعون الجواب المعهود: خلقنا الله لعبادته ويستدلون بقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات(56)، فيرد عليهم أصحاب السؤال لم نقصد هذا، وإنما قصدنا الجانب الآخر من السؤال المتعلق بالله U: لماذا خلقنا؟ وماذا يريد من ذلك هو وليس نحن؟ فلا يسمعون جواباً يقنع عقولهم، ويفعم قلوبهم طمأنينة، ويدفعهم في سبل الحياة تفاعلاً وفاعلية، عملاً وصبراً واستمراراً في عملية البناء لتحقيق الهدف الأسمى.
والملاحظ أن هذا السؤال يساور صنفين من الناس:
أولهما: صنف يعاني من الفقر والظلم والأسى والحزن، ولا يستطيع دفع ذلك عنه، ولا يوجد في قلبه إيمان عقلي يكسبه التوازن والاطمئنان في حياته على الصعيد النفسي، فيخطر في ذهنه لو أنه لم يكن مخلوقاً في هذه الحياة الدنيا، أو يتساءل ماذا يريد هذا الإله العظيم من عملية الخلق. وينكفئ هذا الإنسان على نفسه كئيباً حزيناً ويموت نفسياً قبل موته جسمياً فيصير الميت الحي! ويتمنى لو كان تراباً.
الآخر: صنف حقق نجاحاً في حياته على الصعيد النفسي والمادي، ويسير في حياته وفق رؤية مستقبلية ضمن خطط مرحلية وظرفية، يحقق نجاحاً تلو الآخر، وينتقل من هدف إلى أسمى منه، ويعلو بناؤه شامخاً على صرح من النجاحات. فيتساءل هذا الإنسان صاحب الرؤية المستقبلية، وصاحب الأمجاد التي بناها من عرقه ودمه وعمره، ماذا بعد الموت؟ فالإنسان يسير منذ ولادته في طريق الموت، كلما ازداد عمره ساعة مضت من عمره ساعة، واقترب من الموت أكثر. لماذا هذا التعب والبناء والنجاح إذا كنت سوف أترك كل ذلك لا محالة، وهل أستطيع أن أضع خططاً لمرحلة ما بعد الموت، وأستطيع أن أنفذها، وهل لنمط حياة الإنسان قبل الموت علاقة بما بعد الموت؟ و لماذا خلقنا هذا الإله العظيم؟
فإن لم يجد هذا الإنسان صاحب الرؤية المستقبلية جواباً مقنعاً لعقله، ويكسب قلبه طمأنينة، تسلل الحزن والاضطراب إلى نفسه، وربما يقف عن تحقيق النجاحات، وينكفئ على نفسه مفكراً ومتأملاً، ويشله الإحباط وهو ينظر إلى تجاعيد أصابت وجهه، وإلى شيب أشعل رأسه، قائلاً ماذا بعد ذلك؟ هل يمكن أن تكون نجاحاتي كلها هباءً منثوراً، لماذا خلق الله هذا المشروع الكوني العظيم؟.
والملاحظ أن محور حديث الفريقين هو الموت:
الأول: يتمنى حصول الموت بأسرع وقت لأنه فقد الفاعلية وصار بحكم العدم.
الآخر: يحاول أن يدفع عنه شبح الموت ليستمر في استثمار نجاحه.
ولكن الموت حق لا مرية فيه، وسوف يدرك كل الناس عاجلاً أو آجلاً.
ومن حقيقة الموت وُلِدَ السؤال ماذا بعد الموت؟ ولماذا خلقنا الله في هذه المرحلة المؤقتة؟
أيها الشباب! إن الموت هو نهاية لمرحلة الحياة الدنيا، ومحطة انتظار وانتقال إلى الحياة الأخرى، فالموت فاصل مؤقت بين حياتين الأولى ( الدنيا ) أساس للأخرى، لذلك كانت الحياة الدنيا دار العمل والمسؤولية، والأخرى دار الثواب والسعادة، فينطلق الإنسان الواعي من هذا المفهوم، ويضع خططاً مرحلية لبناء الحياة الآخرة دون أن ينسى أو يهمل مستلزمات ومتطلبات مرحلة العمل والبناء في الحياة الدنيا.
{وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }البقرة201
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } الأعلى(17)
أما السؤال لماذا خلقنا الله في هذا المشروع الإلهي العظيم؟ فله وجهان من حيث التعلق:
الأول: يتعلق بالله نفسه، والسؤال موجه لذاته. لماذا فعلت ذلك يا الله؟ والجواب هو:
{… إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } هود(107)
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الأنبياء(23)
وذلك لأن الله متصف بصفات الكمال من الحكمة والعلم والإرادة والقدرة، وهو أحد صمد حي قيوم، مستغن عن الخلق، قائم بنفسه،الأول والآخر، فقطعاً لم يفعل ذلك احتياجاً أو مللاً أو عبثاً … الخ، وإنما لحكمة يعلمها هو، وغائبة عن علم وإدراك الخلق، كما أنها غير متعلقة بوظيفتهم في الحياة، ولا يترتب على معرفتها بالنسبة إليهم أي شيء، ولو ذكرها الله لهم لأتبعوها بسؤال آخر لماذا أيضاً هذا؟
وهكذا يستمر السؤال إلى ما لانهاية لانتفاء تعلق جواب السؤال بواقع الإنسان، والإنسان لا يعقل أو يفكر إلا بواقع يتعلق بحياته ويخضع لحواسه، ويقيس الأمور بالنسبة إليه ضرراً أو نفعاً.
فالوجه الأول لتعلق السؤال ليس بمحل للتفكير أو الدراسة، وهو أمر لا يهم الإنسان، وإنما هو أمر يتعلق بفعل الله وحكمته، وهو شيء خاص بالفاعل لا يمكن للفعل معرفته، بل تستحيل معرفته إذا لم يخبرنا الفاعل نفسه عن ذلك، ناهيك عن عدم أهمية وفاعلية معرفة الجواب بالنسبة إلينا، وبالتالي تستوي عملية المعرفة وانتفائها عندنا لعدم تعلقها بفاعلية حياتنا، فالسعي وراء معرفة هذا الجانب هو سعي فاشل ونهايته مجرد تصورات وخواطر لا قيمة لها من الناحية العلمية.
الثاني: يتعلق بالإنسان نفسه، لماذا وُجِدَ في هذه الحياة الدنيا؟ ولم يتركه الله U يتخبط في جوابه بل أرسل الرسل، وأخبره أن وجوده في الحياة الدنيا إنما هو وجود ابتلاء وامتحان{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } الملك(2)،وهذا الابتلاء متمثل بعمارة الأرض ونشر الخير والسلام والعدل والمحبة والنهضة في المجتمع الإنساني، وهذا الامتحان هو عملية تراكمية تستوعب الجنس الإنساني من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع لأن الإنسان كائن اجتماعي، فلكل دوره في هذه المنظومة بصورة منسجمة مع بعضها بعضاً لتنسجم في النهاية مع المنظومة العامة الكونية ليشكلوا معاً لوحة التكامل الوظيفي في حركة هذا المشروع الإلهي.
فالإنسان الذي يؤمن بالخالق المدبر الفاعل الأول،وبالمشروع الإلهي، ويدرك وظيفة الإنسان في هذا المشروع بمرحلتيه الدنيا والآخرة يقوم ببناء مشروعه ضمن مشروع المجتمع الإنساني المنسجم مع مشروع الله الكلي.
وإذا حصل ذلك عند الإنسان يدرك أن وجوده في الحياة الدنيا هام وجوهري، وهو عنصر فاعل في المشروع الإلهي يساهم في بناء تفاصيل وجزيئات متعلقة بنهضة المجتمع الإنساني من خلال استخدام سنن وقوانين الخالق المدبر،وهذا الإنسان الفاعل الذي جعله الخالق خليفة في الأرض –كمجتمع– ينخرط في تنفيذ مشروعه ضمن المشروع الإلهي وهو يشعر بالعزة والفخر والاحترام لوجوده الفاعل، ويعلم حينئذ أن وجوده الواعي في المشروع الإلهي خير له من الهلاك والفناء أو أن يكون تراباً، كما أنه يعلم أن تعبه ونجاحه في بناء مشروعه الخاص لن يذهب سدى أو يضيع هدراً، بل سوف يستمر ويتراكم في كينونة المجتمع الإنساني، وينتقل معه إلى الحياة الآخرة، فالإنسان يعيش في الجنة بشخصيته التي شكلها في الحياة الدنيا، وسوف تنتقل معه العلوم والمعارف التي لها صفة الثبات والتجريد مثل الرياضيات{… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } الزمر(9)، وترتفع درجته حسب علمه وعمله.
أما العلوم والمعارف النسبية المتعلقة بالمرحلة الأولى من المشروع الإلهي (الحياة الدنيا ) مثل الفيزياء والكيمياء فسوف تهلك مع هلاك المرحلة الأولى{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (إبراهيم 48 ) لتحل محلها علوم ومعارف جديدة تناسب الآخرة، ويمكن للإنسان الذي يملك علماً أن يرتقي بعلمه في هذه المرحلة أيضاً.
إذاً؛ الإنسان الذي آمن بالله خالقاً مدبراً، وبالحياة الدنيا ابتلاء وخلافة، وأن الموت مرحلة انتظار وانتقال إلى حياة باقية يتم بناؤها ابتداءً من الحياة الدنيا، يعلم يقيناً أن وجوده في الحياة الدنيا شيء عظيم مهما كانت مادة الامتحان، فقر أو غنى،أو غير ذلك، كله ابتلاء وامتحان، وصبر وشكر، ولكل دوره ووظيفته في بناء المشروع الإنساني الذي لا يمكن أن يتم إلا إذا وُجد التفاضل والتمايز في درجات الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً مع إمكانية تحرك الإنسان ورفع مستواه الوظيفي من دور إلى آخر.
ومفهوم الابتلاء، ومقام الخلافة كلاهما تكريم للإنسان وتفضيل له، ووسطى الأمور محل حوار إيجابي خلاق، يذود فيه الإنسان عن حياض أفكاره، مستنداً إلى أسس فكره الراسخة، متعاوناً مع إخوانه في الإنسانية في سبيل بناء مجتمع إنساني فاضل وسعيد.
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً…. إن الحياة عقيدة وجهـاد
هذا الجهاد يفعم القلب الإنساني بغبطة العطاء والمعرفة،فيسمو بمتعته الإيمانية العالمة والعاملة فوق ما افترضته الفلسفات الهيدونية (العمل بدافع اللذة) بكثير.
أما المقصد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات(56)
فهو حرية الاختيار في بناء المشروع الإنساني، لأن كلمة العبادة من الكلمات التي لها صور متضادة في الاستخدام (الشدة أو اللين)، ومن الشدة ظهر الكفر، ومن اللين ظهر الإيمان. لذلك يقول العلماء: كلمة يعبدون يقصد بها الإيمان والكفر على حد سواء. وذلك من باب تفسير الشيء بمآله. ويصدق ذلك المعنى قوله تعالى:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً } الكهف (29)، فالمؤمن يقوم بحرية ببناء المشروع الإنساني بصورة منسجمة مع المشروع الإلهي، بينما يحاول الكافر أن يبني مشروعه العدواني داخل المشروع الإلهي، فلا ينسجم معه، ومآله إلى الهلاك والفناء، إمّا بيد المؤمنين عاجلاً، أو بدفع السنن والقوانين الإلهية آجلاً، وذلك إذا تخاذل الناس عن أداء دورهم الوظيفي في بناء مشروع النهضة الإنسانية، مع الانتباه إلى أن ترك تغيير المجتمع للسنن الإلهية سوف يكون كارثياً وتدميرياً! نحو تفكك الاتحاد السوفييتي!.
فالحكمة من خلق الناس المتعلق بهم هو ممارسة الحرية في بناء مشروعهم ضمن مشروع الله، وذلك شيء طبيعي لأن الحرية يترتب عليها المسؤولية، فالحر مسؤول، والمسؤول محاسب. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } الصافات (24)
اضف تعليقا