الله يجعل أئمة للهدى وأئمة للكفر
جعل: كلمة لا تعني خلق، أو أوجد، أو أجبر، وإنما تعني تغير الشيء الموجود وفق سنن من حال إلى حال قد يكون ارتقاء ، وقد يكون انتكاساً، وبمعنى آخر: الجعل: صيرورة في كينونة الشيء مادياً أو معنوياً.
لنقرأ كيف أتى استخدامها في القرءان:
1- {رَبَّنَاوَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}البقرة128
من المعروف أن الإنسان يملك إرادة حرة في إسلامه أو إجرامه،والدعاء لله بأن يجعلنا مسلمين أمر متعلق باختيارنا وإرادتنا للإسلام ،وعندما تصدق النية منا في الإسلام ونعزم عليه إرادة ونمتثل ذلك سلوكاً تأخذ عملية الجعل مجراها ونتغير من حال الانتكاس إلى حال الارتقاء والنهضة ، والعكس صواب، وذلك مصداق قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَابِأَنْفُسِهِمْ }الرعد11، وهذا يدل على أن الجعل عندما يتعلق بالكائن العاقل الحر فهو مرتهن بإرادته للتغيير وسلوكه نحو الارتقاء أو الانتكاس والأخذ بأسبابه .
لنقرا هذا المفهوم في تلك النصوص:
-{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الأنعام39
-{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَافَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }الأنعام112
– {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَايَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }الأنعام123
– {وَلاَتُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}النساء5
– {فَبِمَانَ قْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}المائدة13
– {وَلاَتَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة224
– {وَلاَيَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }آل عمران176
إذاً؛ الجعل تغير في كينونة الشيء مادياً أومعنوياً إما ارتقاء أو انتكاساً، وإن تعلق بالكائن الحر ارتهن بإرادته وسلوكه وفق سنن الصيرورة.
إمام: كلمة تدل على الأصل والمرجع والمركز الذي يربط الأشياء به ويوجهها.
ومن هذا الوجه سميت المرأة التي تحتضن الأولاد تربية وعناية أماً، وسميت مكة أم القرى لأنها مركز للقرى، وسمي الإنسان الذي يقود المصلين في صلاتهم إماماً، والإمامةيمكن أن تتعلق بالكائن العاقل الحر، ويمكن أن تتعلق بالشيء نحو تعلقها بكتاب {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً }هود17. {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }الإسراء71.
و إمام المؤمنين وصل إلى ذلك بإرادته الحرة وصدق عزيمته وصلاحه وتقواه وعلمه والتزامه بمنهج الله الحنيف.
وإمام الكافرين وصل إلى ذلك بإرادته الحرة وعزمه وجهله وإجرامه.
وعندما يصدق العزم من كليهما يأتي دور الجعل وفق السنن، وتتغير كينونتهما إلى الحال الذي ارتضوه وقصدوه ابتداء.
لنقرأ:
1- {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }الفرقان74
2- {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ}القصص41
3- {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّاصَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }السجدة24
4- {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ }التوبة12
5- {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124
فَجَعْل النبي إبراهيم إماماً سبقه تغير في كينونته الإيمانية والعلمية وارتقى في ذلك درجات عظيمة صَيَّرته إماماً للناس وفق السنن، وهذا دلالة جملة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) ومفهوم (كلمات) غير مفهوم (كلام)، فكلمة الله هي أمر خارج النص القرءاني أو غيره من الكتب السابقة، ومحلها الوجود الموضوعي مثل النبي عيسى فهو كلمة الله، بمعنى أن وجوده كان بكن توجهت له خاصة دون سائر الناس،وهي اختزال في القوانين وتسريعها، ومثله كمثل آدم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَاللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آلعمران59، بينما وُجد الناس بعد آدم نتيجة الكلمة الأولى المتعلقة بآدم وفق سيرورة السنن، وأتم إبراهيم أموراً متعلقة بالوجود الموضوعي دراسة ووعياً وعلماً صيرته عالماً وأهَّلته لأن يصير إماماً للناس بعد أن كان إمام هدى فقط.
وإمامة الناس متعلقة بكل الناس مسلمهم وكافرهم،وهذا ما هو واضح في مقام إبراهيم فهو إمام هدى للمتقين، وإمام منهج علمي لكل الباحثين والعلماء تمثل بالمنهج التجريبي الحنيف . والنبي إبراهيم أبو المسلمين كافة إلى يوم الدين ، أبوة ثقافة وهدى.
وهذا يوصلنا إلى أن مقام إمام الناس ينبغي أن يتحقق به أمرين:
أ- أن يكون إمام هدى للمتقين .
ب- أن يكون إمام منهج علمي حنيف.
وهذان الأمران شرطان لمقام إمام الناس، فإن انفرد أحدهما بمقام منهما فهو إمام به فقط،أي إمام هدى، أو إمام علم معين، فإن اجتمعا في إنسان صار إمام الناس، وذلك لأنه جمع بين علم الآفاق، وعلم الأنفس، وهذا المقام مفتوح إلى يوم الدين ينتظر من يصل إليه ويصير إمام الناس.
اضف تعليقا