مداخلة في ندوة الملتقى الثاني لكُتّاب التنوير
في مركز الدراسات الإسلامية في دمشق
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أيها الأخوة الكرام
يوجد بضع نقاط هامة ينبغي التركيز عليها, ووضع النقاط على الحروف , وقد ذكر بعضها السيد الدكتور محمد حبش في كلمته الافتتاحية , و الأساتذة الأفاضل أثناء مداخلاتهم . وهذه النقاط هي :
1-الإسلام دين أنزله الخالق للناس جميعاً، ابتدأ منذ نوح واستمر إلى إبراهيم، وموسى، وعيسى، واكتمل بناءً بمحمد صلوات الله عليهم جميعاً. فالتوحيد للخالق كما تعلمون؛ هو أمر ثابت ابتداءً، ولم يخضع لعملية التدرج والمرحلية ، بخلاف الشرع فقد كان ينزل تباعاً بصورة مرحلية متدرجاً إلى أن اكتمل نزولاً بالقرآن الكريم. فكان ينزل أموراً لها صفة الإنسانية والثبات نحو حرمة نكاح الأمهات، فكانت هذه الأحكام هي اللبنات الأولى للشرع الإسلامي، وكان ينزل معها أحكام ظرفية مرتبطة بمعطيات زمانية ومكانية تُسمى الشرع العيني، وهكذا استمر الشرع نزولاً بنوعيه: الشرع الإسلامي ينمو ويتسع بناءً، والشرع العيني يعدل وينسخ ويتقلص مع الزمن، إلى أن اكتمل الشرع الإسلامي بنزول القرآن, الذي أعاد إنزال كل ما سبق من الشرع الإسلامي, وحواه بين دفتيه وأعرض عن الشرع العيني, وتركه للتاريخ لعدم صلاحيته وانتفاء صفة الإنسانية عنه . فمن هذا الوجه لا تصح مقولة : تعدد الأديان السماوية . فدين الله واحد وهو الإسلام، وأتباع الرسل السابقين دينهم الإسلام عموماً.
الشرع الإسلامي، والشرع العيني
إن الشرع الذي أنزله الله للناس ؛ خلال التاريخ الطويل مؤلف من قسمين:
الأول: أحكام من الشرع الإسلامي.
والآخر: أحكام من الشرع العيني التاريخي .
فأهل الكتاب الذين اتبعوا محمداً، وما نزل عليه، لم يتركوا دينهم من حيث الإيمان بالله واليوم الآخر ، ولم يتركوا الأحكام التي لها صفة الشرع الإسلامي من حيث الثبات والإنسانية، وكذلك لم يتركوا القيم والأخلاق، مثل العدل والصدق والأمانة …الخ. وإنما تركوا الأحكام الشرعية العينية الظرفية لانتفاء صلاحيتها إنسانياً وعالمياً ، وأكملوا الشرع الإسلامي الذي عندهم بالشرع الإسلامي الذي نزل على محمد، فهم بهذه العملية ارتقوا بناءً وتكاملاً، ولم ينقضوا بناءهم الأول، بل عدَّلوه بما يناسب الإنسانية عامة . فمن يؤمن بمحمد، وما نزل عليه يكون قد آمن بكل الرسل, ومن لم يتبع محمداً فهو أمام أحد أمرين :
الأول : إذا لم يحارب ما نزل على محمد، و احترمه واعترف بحقه في الوجود, ولكن لم يتبعه, وإنما بقي متبعاً الرسول السابق ، فهذا الإنسان هو مسلم في دينه عموماً متبع لجزء من الشرع الإسلامي ، ومتمسك بشرع عيني ظرفي ارتضاه لنفسه. فهذا الإنسان أشبه برجل صعد بناء مؤلف من عشرة طوابق فوقف في وسطه، واكتفى بما يراه، لا يُلزم أحد برؤيته تلك , وجاء آخر وتجاوزه إلى الطابق الأخير، وجاء آخر فقصر عنه إلى الطابق الأسفل , وهكذا توزعوا في الطوابق . فعملياً كلهم في البناء ذاته، وكلهم يقفون على أساس واحد وأسس مرتفعة (الإيمان بالله واليوم الآخر، والقيم والأخلاق، والعمل الصالح ) واختلفوا في عملية وقوفهم في الطوابق ، واختلفوا في طريقة عيشهم في المتغيرات ضمن طوابقهم ، ولكن لا يمس أحدهم أسس البناء، أو يهدمه ، ومن الطبيعي جداً أن تكون رؤية الإنسان الذي وصل إلى الطابق الأخير متصفةً بالشمول والبُعد الآفاقي ، بينما من كان في الطوابق الدُنيا تقصر رؤيته حسب المستوى الذي يقف فيه، ولكن لا يعني أنه ضال، أو لا قيمة لنظرته ! لأنه يقف في ذات البناء وضمن الأسس المرتفعة في البناء، لا يهدمها أو ينقضها, وله كامل الحرية في التجول والتنقل بين الطوابق.
الآخر : وقف من ما نزل على محمد موقف الكفر والعداء والحقد, فهذا الرجل أشبه بمن وضع متفجرات في أساس البناء رغم أنه واحد من سكانه ! فهو أول من يتأذى بذلك، ويهلك، لأنه هدم ونقض الأساس الذي يعتمد عليه بيته !، وبالتالي ينبغي التعاون بين سكان البناء لمنع هذا الإنسان من عمليات التخريب، ونشره للفساد والأذى والحقد والكره بين سكان البناء، وطرده خارجاً، أو توقيفه عند حده وإرجاعه إلى الالتزام بقانون الاحترام والسلام والتعايش والتعاون بين جميع سكان البناء.
وهذه أهم الآيات القرآنية التي تدل على ما ذكرت . قال تعالى:
}إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ } الأنبياء 92
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} آل عمران 67
{ قُولُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }البقرة 136
{ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ }الحج 78
{ إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } آل عمران 19
{ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }المائدة 48
{ثُمّ جَعَلْنَاكَ عَلَىَ شَرِيعَةٍ مّنَ الأمْرِ فَاتّبِعْهَا وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }الجاثية 18
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ }الشورى 13
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة 62
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً*وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }النساء 123-124
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تِلْكَ أَمَانِيّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ*بَلَىَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة 111-112
{ لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ*يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ*وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ }آل عمران 113-115
وينبغي الانتباه إلى أن الآيات التي وصفت جماعة من أهل الكتاب بالكفر هي آيات محددة بوصف معين غير متحقق بجميع أهل الكتاب , بدليل أن الآيات السابقة قد وصفتهم بالإسلام والإيمان , وآيات الكفر أتت بصورة جزئية نحو:
{مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }البقرة 105
وكلمة ( من أهل الكتاب ) تدل على التبعيض كما هو معلوم من دلالة ( من) في اللسان العربي , كما أن دلالة كلمة ( كفر )، تدل على مجرد التغطية للشيء. ويقصد منها موقف سلوكي يقوم الإنسان به تجاه أمر معين , قد يصدر تهاوناً وهوى , أو خطأ , فهذا سلوك شخصي، لاعلاقة لأحد به ، أما إذا صدر منه حقداً وعداء، وبغضاً للحق، وحرباً لأهله , فهذا الحاقد المعادي للحق كافر، وعدو ينبغي محاربته للحماية من عدوانه وإجرامه .
لذا؛ ينبغي أن تفهم هذه النصوص على ضوء النصوص السابقة بصورة منسجمة مع بعضها
قال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }المائدة73
إن النص يحتوي على فعلي كفر، الأول: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}، والثاني: {ليَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، ففعل الكفر الأول، هو خبر عن وقوع هؤلاء بمخالفتهم للحق وتغطيتهم له بقولهم هذا. أما الكفر الثاني، فهو تهديد لمن استمر على كفره منهم بعد علمه، وتحول موقفه إلى الإجرام والحقد وإنكار الحقيقة.
وهذا لا ينطبق على كل من يقول : إن الله ثالث ثلاثة !، رغم أن قوله ذلك بحد ذاته، هو كفر مخالف للحقيقة .
{قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ*اللّهُ الصّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
2 – مفهوم الديمقراطية
والحديث عنها يطول شرحه، ولكن سوف أعتمد على ثقافة السادة السامعين
أيها الأساتذة الكرام
غير مطلوب منا أخذ شهادة حسن سلوك من أمريكا أو أوربة حتى نعيش في أوطاننا سالمين آمنين , ويُملون علينا مفاهيمهم وثقافتهم ! إن الديمقراطية وُلدت مشوهة ابتداء كما تعلمون، فقد كانت أداة بيد المستكبرين والمستبدين لإحكام قبضتهم على الشعوب واستعبادها, ولذلك قال المفكرون الديمقراطيون: لم تُطبق الديمقراطية في التاريخ الإنساني أبداً، ولا يُنتظر تطبيقها في المنظور القريب .
وقد طوى التاريخ هذا المسخ قروناً من الزمن، إلى أن تم فصل الكنيسة عن سلطة الحكم لتجاوزها حدودها وطغيانها ووقوفها في وجه العلم والتطور, فانفجرت الجماهير نتيجة الظلم والفساد بصورة عشوائية, وقضوا على سلطة الكنيسة ومن يُمثلها وأرغموها على الانكماش والانسحاب إلى داخل جدران الكنيسة، وإغلاق الباب عليها، وبدؤوا بالبحث عن البديل لأن المجتمعات لا تنهض دون فكر كلي يقود ويوجه نهضتها . فكانت الديمقراطية المسخ القديم هي الوحيدة المرشحة لأن تأخذ دور قيادة الفكر الكلي وتقود الجماهير, فكان ولادتها من جديد ولادة الضرورة، وغياب الفكر الحق، مما أدى إلى أن يأخذها المفكرون والفلاسفة حينئذ.
وقاموا بتزيينها بالاتفاق مع أصحاب النفوذ والمال , وقدموها للشعوب بأنها مركب النجاة والخلاص , فاستجاب الجماهير لها بغفلة وسذاجة وصدقوها, وقام أصحاب القوى والمال باستخدامها في توطيد وترسيخ استبدادهم لاستعباد الشعوب. وهكذا صارت الديمقراطية أداة متطورة بيد المستبدين قادرين على إدارة اللعبة بصورة معقدة فوق مستوى وعي وإدراك الجماهير، لأن الاستبداد و الاستعباد انتقل من أفراد إلى مؤسسات وأحزاب .!
أيها الأخوة ! إن الديمقراطية على أرض الواقع، هي تداول السلطة بين الأقوياء من خلال الصراع لاستعباد الشعوب مهما تغير تعريفها بين المجتمعات، ومهما ادعى المستبدون أن الديمقراطية هي نظام إنساني، ولكل مجتمع خصوصيته . فهم غير صادقين فيما يقولون! والواقع شاهد على ما أقول ! فالديمقراطية أكبر وأخطر أداة استبدادية يتم استعمالها لاستعباد الشعوب بطريقة متطورة ومتلونة.
الديمقراطية مولود غربي
أيها السادة الأفاضل
إن الديمقراطية قد وُلدت نتيجة ظروف ومعطيات غربيّة تخصهم , وتمخض عن الديمقراطية الشعار المعروف لديكم ( فصل الدين عن الحياة) الذي صار شعارٌ للعلمانية، التي بدورها تمخض عنها الفكر الشيوعي، ورفع شعار ( لا إله والحياة مادة )، والفكر الرأسمالي الذي احتفظ بالشعار الأم ( فصل الدين عن الحياة ) ، وهكذا وُلد هذان التياران وبقيا محتفظان بجينات الديمقراطية، وفصل الدين عن الحياة .
وقام الفكر الرأسمالي بتمييع وتسطيح الفكر واتخذ موقفاً تلفيقياً لا إنكار للدين، ولا تفعيل له بالحياة, وهذا الموقف صبغ به كل فكره، ومواقفه, فلا يوجد في الفكر الرأسمالي ثوابت، وقيم، ومقاييس ، فكل شيء قابل للمساومة حسب المصلحة , وهذا مُشاهد في سياسة البلاد الاستكبارية .
أما الفكر الشيوعي، فقد أخذ موقفاً حازماً صريحاً متطرفاً عندما أنكر الدين ومفاهيمه أصلاً، وتعامل مع الواقع المحسوس فقط، وصبغ كل مفاهيمه بذلك, فضاع وأضاع الجماهير معه ، إلى أن تفكك ذاتياً لأنه يحمل بذرة التفكك والهلاك ابتداء!. فالديمقراطية ولادة غربيّة نتيجة ظروف خاصة بهم، ومع ذلك هي خدعة سياسية، ونظام لترسيخ الاستبداد وممارسة الاستعباد للشعوب . ولو بُعث فرعون من جديد لكان أول من ينادي بالديمقراطية، واستعبد الشعوب التي تصفق له، وتجتمع عند قدميه، وتعد نفسها رعايا لراعيها عوضاً عن صفة المواطنة .
مع العلم أيها السادة ! إنّ صفة الرعاية للمواشي ، والعناية للإنسان، فنحن مواطنون، ولسنا رعايا لأحد، قال تعالى: { كلوا وارعوا أنعامكم}. طه( 45)، لذا؛ ينبغي محاربة ثقافة الرعاية التي هي خاصة للمواشي والبهائم ، ونشر ثقافة العناية التي هي خاصة للإنسان كفرد وأسرة ومجتمع.
أيها السادة !
-3 إن التمييز بالهوية الثقافية ضرورة اجتماعية، وواجب ومقصد قرآني، وما ينبغي خلط المفاهيم بالمصطلحات والتسميات, فالحق غير الباطل ، والعدل غير الظلم … الخ، فما ينبغي تسمية الأشياء بغير مسمياتها, وخلط الحابل بالنابل كي لا تضيع الحقائق وتنخدع الجماهير!.
أيها السادة ! إنّ الإسلام ليس هو الديمقراطية ! كما أن الديمقراطية ليست هي الإسلام ، وإذا وُجد تشابه في بعض الاصطلاحات ، أو المضمون لها، فلا يعني ذلك الوحدة والاندماج, لأنه لا يوجد في الدنيا فكر إلا وهو متشابه أو متطابق في بعض مضمونه مع فكر آخر بصورة أو بأخرى ، وهذا لا يعني أن فكر الناس جميعاً هو واحد، فالرأسمالي غير الشيوعي، رغم أن أساسهما واحد وهو العلمانية ! فالتمييز ضرورة ثقافية اجتماعية . والذي يخلط بين المفاهيم والمصطلحات يقوم بدس السم في العسل. سواء أكان قاصداً أم عن غير قصد .
لذا؛ ينبغي الحذر والانتباه لاستخدام المصطلحات في محلها وحسب محتواها, فالديمقراطية أداة ونظام ملتصق بها الاستبداد بصورة لازمة لا ينفكان عنها أبداً،وبالتالي؛ ينبغي استبعاد هذا المصطلح المشؤوم من ثقافتنا مثله مثل مفهوم الرعاية للناس ، وعدم استخدامه، أو تعبئته بمفاهيم إسلامية، أو عرضه على الجماهير على أساس أنه أداة محايدة ونظام إداري فقط! إنه السم الزعاف. ينبغي أن يُعرض الإسلام كما عرضه الخالق{ إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران (85)، إن الإسلام دين نزل في الدنيا ليُطبق فيها، ولها، لنهضة المجتمع الإنساني, ويجب أن يتم ذلك باسمه الذي اختاره أبو الأنبياء وإمام الناس، أبونا إبراهيم u، وأقره على ذلك الخالق تبارك وتعالى: { مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} الحج 78.
-4 إن الإسلام فكر كلي ثقافي أوجد أجوبة عن الحياة والكون والإنسان وعلاقتهم ببعضهم بعضاً، ينبثق منه نظام تشريعي حدودي للمجتمع, وقد ترك حرية التحرك في الجزئيات والمتغيرات للمجتمع حسب أدواته المعرفية، بما يحقق له المصلحة والنهضة ( ثبات النص وحركة المحتوى) فمفاهيم العدالة والأمن والسلام والحرية والمشاركة، والتعايش والتعاون والمحبة، وغير ذلك من المفاهيم هي أساس ومقاصد يقوم عليها الشرع الإسلامي ، والخالق قد جعل القرآن إنسانياً في محتوى خطابه ، وعالمياً في حركته ، وعلمياً في مقاصده ومفاهيمه ، وربط خطابه بمحله من الواقع ليُعطيه مصداقية، ويحفظه ويكون أساساً لفهمه، فما كان إسلامياً؛ يكون إنسانياً ، وما كان إنسانياً؛ يكون إسلامياً . فالإسلام، والإنسانية، والعلم مفاهيم تلتقي وتتطابق على أرض الواقع .
-5 علاقة الدين بالدولة
أيها السادة الكرام
إن موقف الإسلام من الدولة موقف متميز ومتفرد ، فهو لا يقوم على صفة دمج الدين في الدولة، فيظهر على أثر ذلك دولة هامان (رجل الدين)، ولا يقوم على فصل الدين عن الدولة، فيظهر دولة فرعون (رجل القوة والقهر)، لأن كليهما يتولد منهما الاستبداد، وممارسة الاستعباد للشعوب, الأول باسم الرب، والآخر باسم فرعون أو الملك، أو باسم الشعب قررنا ما يلي: (يُذبح الشعب على عتبة القصر, وتجري دماؤه في أنهر الحديقة).
ومثل ذلك، كمثل الحمار الذي يركبه فرعون ، ويسوقه قارون ، ويُتمتم في أذنيه هامان قائلاً : اصبر ولك الجنة !. فينهق الحمار!، ويجري مسرعاً بحمولته ويستمر في حمرنته! .
هذا المثلث ( فرعون وقارون وهامان) هو مثلث الإجرام يتعاونون مع بعضهم بعضاً لاستعباد الشعوب .
الإسلام كثقافة مجتمع هو المصدر الرئيس للدستور وليس النهائي وعلاقته مع الدولة وليس مع السلطة السياسية
الإسلام خطاب هداية للناس
أما الإسلام فقد توجه في خطابه للناس ، وطلب منهم الإيمان والتفاعل معه للوصول إلى الفاعلية، واختيار نظام الدولة الذي يرونه مناسباً لهم حسب ثقافتهم ويُلبي احتياجاتهم وينهض بهم .
فالإسلام قام على علاقة جدلية زوجية بين الدين والدولة، يؤثر كل منهما بالآخر، إذ يكون القرآن المصدر الأول للدستور والقانون، ويتبعه مصادر أخرى، مثل العلم والتاريخ والتفكير والعرف والمصلحة . وتكون الدولة حامية وحارسة للدين ومقاصده من أن يهدمها أو يتجاوزها أحد .
6 – صفة الإيمان أو الكفر هما صفتان للإنسان ، والصلاح والفساد للمجتمع، والدولة منفعلة بالمجتمع، وتُقاس الدول بصفة العدل والعلم،والحرية والمشاركة في زمام أمور الدولة .
وبناء على ذلك، فالأزمة بين الدول والشعوب ليست دينية ! وإنما هي العدل والظلم ، و العلم والجهل ، والحرية والاستعباد ! ولذلك؛ لا نجد في القرآن مانعاً من تَسلم رجل مسيحي زمام السلطة في المجتمع الإسلامي، من منطلق أن المسيحي هو مسلم أساساً, والمنع الموجود في الفقه، إنما هو سياسي وتاريخي، غير أن رئيس الدولة سوف يلتزم بالدستور والقانون المنبثق من ثقافة المجتمع، والمحمي من قبل مؤسسات وأحزاب المجتمع، فلن يحكم هو أو غيره بمعتقداته الخاصة، بل سوف يطبق القانون ويلتزم بالدستور، وإلاَّ يُعزل من منصبه الإداري، لأن القيادة لمؤسسات القوى في المجتمع وفق الدستور والقانون، ولذلك ينبغي فصل السلطات عن بعضها التي هي :
سلطة الأمر -وسلطة القضاء – وسلطة التشريع – وسلطة الصحافة– وسلطة التربية والتعليم – وسلطة الإعلام والفن – وغيرها من السلطات، مع وجود رابط يربط الجميع بالدستور والقانون، ويهدفون جميعاً نهضة المجتمع والرقي به نحو الحضارة والمدنية.
لا؛ للأحزاب الدينية
لذا؛ أقول صراحة وبصوت عالٍ: لا ! للأحزاب الدينية والعقائدية, والعرقية،ونعم! للأحزاب و المؤسسات الاجتماعية الثقافية الإنسانية, التي تهدف لبناء البنية التحتية وتنشر الوعي والثقافة وفق مفاهيم إنسانية قائمة على نبذ العنف، والطائفية ، والعرقية ، والإرهاب، وعدّ ذلك مرضاً اجتماعياً، ينبغي استئصال الثقافة التي تُكرسه، وتمده بالقوة كائنة من كانت هذه الثقافة .
نعم ! للحزب أو المؤسسة الاجتماعية التي تحتضن في داخلها كل أطياف المجتمع على الصعيد الديني والطائفي والقومي, لأن الوطن للجميع لهم حق الحياة فيه ، وواجب عليهم الدفاع عنه ، وبالتالي لا مانع من التعددية الحزبية، لأن جميع الأحزاب قائمة على أساس واحد, ومختلفة في اختيار الجزئيات والمتغيرات حسب أدواتها المعرفية واحتياجاتها ، فهي أشبه بسكان في بناء واحد يقومون على أساس واحد، وملتزمون بثوابت واحدة، ومختلفون بطريقة عيشهم في بيوتهم الخاصة، مع التزامهم بالنظام العام الذي يحكم البناء .
أساس علاقة الأحزاب
التكامل والتعاون، لا الصراع والتناحر
إنّ الأحزاب في المجتمع الواحد؛ رديفة لبعضها بعضاً، قائمة على التعاون والتعايش، والتماسك والمشاركة، والتعاضد، تنبذ العنف والصراع, وتهدف إلى النهضة والصلاح والأمن والسلام .
ويكون كرسي السلطة محل مراقبة، وليس هدفاً يسعون له، لأنه بطبيعة الحال ينبغي أن تكون السلطة تداولاً بين مراكز القوى العادلة السلمية المتعاونة في المجتمع، وفق الدستور والقانون, وينبغي مشاركة جميع مراكز القوى بكافة الأطياف في إدارة وقيادة الدولة .
وبهذا العرض أكون قد خلصت إلى حل إشكال الدولة الدينية، والدولة العلمانية، والوصول إلى الدولة العلمية الإنسانية القائمة على ثقافة العناية والمواطنة .
وحل إشكال الأحزاب الدينية، وتحويلها إلى أحزاب اجتماعية إنسانية منفتحة، تحارب العنف والإرهاب، والظلم والفساد، بالسلم والأمن، والعدل والصلاح، والحرية والمحبة بين الناس .
وهذا العرض كفيل بإيجاد أسس لبناء الوحدة الوطنية، والقضاء على مشاكل قومية، أو طائفية، أو دينية، وجعل جميع أفراد المجتمع ومؤسساته على مختلف أطيافه، مواطنين يحملون التابعية لوطنهم ، ويتنافسون في نهضته؛ وَفق رؤية سلمية تعاونية؛ تعايشية متماسكين مع بعضهم كالبنيان المرصوص؛ يحرصون على سلامة الآخر كما يحرصون على أنفسهم .
وأنتهز هذه الفرصة لأوجه نداء لأهل الحل والعقد، وأصحاب الفكر والوعي من كافة الأطياف في المجتمع إلى تبني هذا الفكر الإنساني، والمشاركة في تأسيس ميثاق عمل، يلتزم الجميع به، يرفع شعار (العلم والأخلاق أساس للنهضة والعمران) ويهدف إلى ( التعايش ، والتماسك ، والنهضة )، ونشر ثقافة المواطنة والعناية.
ولا مانع من تسمية الحزب أو المؤسسة بأي اسم إنساني أو علمي، ولكن يجب منع التسمية الدينية، أو الطائفية ، أو القومية ، ومنع أي حزب يقوم فكره على ذلك، لأنهم من حيث الخطورة و الضرر على المجتمع سواء .
وأخيراً اسمحوا لي أن أعرض عليكم مفهوماً عظيماً غَيَّبه العرب المسلمون وهو:
الإسلام دين إنساني علمي نزل بلسان عربي للناس جميعاً . وبالتالي ينبغي تحرير الإسلام من هيمنة ثقافة القومية عليه، وتركه حرا ً! يحلّق في أجواء الأرض, ويمارس دوره الإنساني العلمي العالمي .
{قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً {الأعراف 158
والحمد لله رب العالمين
وشكراً للقائمين على العناية بهذه الندوة الثقافية التنويرية
اضف تعليقا