الشيخ معيار للصواب والخطأ
منذ عشرين عامًا تقريبًا وسط الثمانينات كنت في زيارة إلى اليمن السعيد. تعرَّفت في صنعاء على كثير من الدعاة، وحضرت محاضرات زامنت وقت زيارتي، وكان من أهمها محاضرة للداعية الكبير الشيخ أبي الحسن الندوي، وأخرى للدكتور الترابي، والدكتور الزنداني، وغيرهم من فقهاء ومُحدّثي اليمن.
ودارت رحى نقاشات، وحوارات مستمرة على مدار اليوم والليلة دون مبالغة، ننام أثناء الحوار ونصحو عليه لنتابعه دون كلل أو ملل.
ومن أطرف الحوارات والنقاشات، ذاك الذي أجريته مع أحد كبار مثقفي السلفية، وهو سوري الأصل مقيم في اليمن حينئذ، وصار فيما بعد، وربما إلى تاريخ هذه الساعة رئيسًا لمركز إسلامي في دولة أوروبية!
كان النقاش حول مفهوم (القضاء والقدر) وأخذ منَّا جلسات؛ وجلسات طوال أيام وليال، وفي أحد الأيام كنت أراجع الموضوع في أحد كتب الشيخ ناصر الدِّين الألباني (رحمه الله)، فوقع تحت يدي قول له، يُوافق ما كنتُ أنصره من رأي، فقلت في نفسي: عجبًا من هذا الشيخ المجادل، كيف لا يعلم برأي شيخه الألباني!
وخطر في نفسي خاطر، وملعوب ألعبه مع هذا الشيخ أمام مجموعة من الناس، كي أكشف حقيقته لهم. وهو أن أنقل رأي الشيخ الألباني من كتابه بخط يدي وأُوهم الشيخ المجادل أنه نصل من معين أفكاري، قد كتبته له ليطلع عليه، ويُبدي رأيه به.
وفعلًا في اجتماع ضم مجموعة كبيرة من مؤيِّديه، وقلة من معارضيه، عرضت عليه الأوراق، وطلبت منه أن يقرأها بصوت مرتفع؟ فاستجاب، وبعد فراغه قال: الرأي ضال، ومخالف للحقيقة.
فقلت له: ألا يوجد احتمال ضئيل أن يكون صوابًا؟
قال: لا يوجد أبدًا.
قلت: ولو وافق عليه شيخك الألباني؟
قال: يستحيل أن يوافق الألباني على هذا الرأي الضال.
قلت: فرضًا! إذا وافق، ماذا يكون موقفك؟
قال: قلت لك يستحيل أن يقول بهذا الرأي الضال.
فعرضت عليه كتاب الألباني، وكنت قد أحضرته معي من أجل ذلك.
وقلت له: اقرأ صفحة كذا بصوت مرتفع.
فتناول الكتاب، وقَلَّبَه، ونظر إلى عنوانه، وتأكد من مؤلفه، ثم فتح الصفحة المذكورة، وبدأ بالقراءة والناس تسمع، وسرعان ما خَفَتَ صوته، وأصابته الحشرجة، وتغير لون وجهه، وغضب غضبًا شديدًا، وارتفع صوته عاليًا قائلًا: لا يجوز هذا العمل الذي عملته معي؟ لماذا لم تقل منذ البداية أنه ليس قولك؟ وهو قول ورأي الشيخ الألباني! فهذا كذب وتدليس.
قلت: لم أقل: إن هذا كلامي وكتابتي، وإنما ناولتك الأوراق فقط، على أساس أن هذا رأي من باب الموافقة للمضمون، وأنت توهمت أنها من كتابتي وتأليفي، فالمشكلة في تصورك، وفهمك للأمر على غير حقيقته.
قال: لكن كان ينبغي أن تذكر أن هذا كلام الشيخ الألباني؟
فقال له بعض الحضور: لا يهم من هو قائل هذا الكلام، ولا كاتبه، والمهم صوابٌ هو أم لا؟
وقال آخر: هل صواب الكلام يختلف باختلاف القائل؟
ارتبك صاحبنا الشيخ، ولم يدر ماذا يقول! واستدرك لحفظ ماء وجهه.
فقال: ينبغي أن أتصل بالشيخ الألباني، وأطلب منه تعديل أو تغيير هذا التعليق، لأن رأيه خطأ وقاصر في هذه المسألة.
فتصدى له تلاميذ الشيخ الألباني، وقالوا: كفاك يا أبا فلان مكابرة، وارجع عن رأيك إلى رأي الأخ، فرأيه صواب، موافق لرأي شيخنا.
وانتهت الجلسة على غير ما بدأت به، إذ دخل الشيخ المجادل إلى الجلسة تحفُّه مجموعة من الشباب، وخرج وحده غاضبًا متوعدًا بمراسلة الشيخ الألباني! وبمقاطعتي حواريًا.
اضف تعليقا