أنا لا أناقشك أنت

عندما خرجت قوات فتح الفلسطينية من بيروت وسط الثمانينيات، توجَّه قسم منها إلى عدن، وتوجَّه قسم آخر إلى صنعاء، وذلك عندما كان اليمن منقسمًا إلى دولتين مُتناحرتين، اليمن الجنوبي، واليمن الشمالي.

وكنت حينئذ في زيارة إلى صنعاء لأخويَّ الشقيقين، فسمعت من بعض رجال السلفيين المثقفين، أنه يوجد بين قوات فتح ضابط يدعو إلى فكر الشيخ “عبد الله الهرري” الحبشي، وهو شيخ مقيم في لبنان، ويُريدون أن يذهبوا إليه لإجراء نقاش وحوار في مسألة (عُلو الله على خلقه) وهي مسألة يَعُدُّها السلفيُّون من أكبر المسائل الإيمانية في الزمن المعاصر، حتى أنهم جعلوها مقياسًا لصواب الإيمان، أو خطئه، بينما كان رأي الشيخ الهرري الحبشي، أنّ الله موجود في كل مكان.

راقني الموضوع فطلبت من أحدهم أن يسمح لي بحضور النقاش، فوافق على حضوري ضيفًا، وليس محاورًا.

وعندما حان الوقت، اجتمعنا، وذهبنا إلى مكان الحوار في بيت الضابط، فدخلنا إلى المضافة، وكانت كبيرة جدًّا، وتعج بشباب من فتح، أتوا ليسمعوا الحوار والنقاش، بينما كان عدد وفد السلفي، لا يتجاوز السبعة، منهم العبد لله.

وبعد السلام والتعارف، بدأ الحوار، فقال أحد السلفيين مُوجهًا كلامه إلى الضابط: إنّ كل موضوع له مصادر ومَرجعيات يتم الرجوع إليها، والاعتماد عليها حين الاختلاف، ومراجعنا هي: كتاب الله، وسنة رسوله، وفهم الصحابة لهما. فما قولك؟

فرد الضابط عليه: أوافقك على كتاب الله فقط؛ لأن مسألة الأحاديث النَّبوية لن تَحْسُمَ الأمر بيننا، فكما تعلم، ما يصحِّحه شيخكم الألباني، يُضَعِّفه شيخنا الهرري، أما بالنسبة لفهم الصحابة، فأنا غير مُلزَم بفهم أحد، ولم يتعبَّدنا الله، أو يأمرنا أن نتبع فهمهم.

وعندما انتهى الضابط من كلامه، نظر السلفيون إلى بعضهم، وتهامسوا فيما بينهم، كيف نصنع؟ وماذا نعمل؟ فَكَلّفوا كبيرهم بالحوار، والرد على هذا الكلام بما يفتح الله عليه.

ومضت ساعة، ولحقتها ساعة أخرى، والحوار في صَد ورد، والضابط يُناور بصورة ذكية، حيث أجهض كل محاولة لدحض فكره أو حصاره، وبقي محافظًا على هدوئه وابتسامته، بينما غلب على السلفيين شعور الحدة والغضب وارتفعت الأصوات عاليًا، وفقدوا السيطرة على مجرى الحوار، وخرج الأمر من يدهم، وصَرَّح أحدهم، أنه كان يظن أن النقاش سوف ينتهي خلال بضع دقائق، لقوة أدلة السلفيين، وتفاجأ أن النقاش تجاوز الساعتين، وهم في مكانهم يُراوحون، وظهر الضيق والانزعاج على وجوه السلفيين جميعًا، وتهامسوا: كيف نخرج دون نتيجة؟ ونترك للضابط فرصة تقديم نفسه كمنتصر في النقاش علينا، ويظهر أمام جماعته بصورة القوي صاحب الحجة، بل الأخطر من ذلك أننا لم نستطع أن ندحض فكره؟

فهمستُ لجاري السلفي الذي أذن لي بالحضور، وقد كان شقيقي، وهو أكبر مني عمرًا: أتسمح أن أتدخل في النقاش؟  (وكنت صامتًا طوال الحوار).

فنظر إليّ مَليًّا، ورسم على شفتيه ابتسامة صفراء.

وقال: لمصلحة من سوف تتكلم؟

قلت: لمصلحة الصواب، وأنا أراه في رأيكم أقرب.

قال: نحن أصحاب الفكرة عجزنا عن إقناعه، فكيف أنت الضال؟

قلت: ألم ينته النقاش، وأفرغتم ما في جعبتكم بصورة كاملة، بماذا أضركم إذا شاركت في الحوار؟

فاستحسن كلامي وقال: إذن، ابدأ بالكلام.

قلت له: أَسْكت الجميع، وأخبرهم أني أريد أن أبسط قراءتي للمسألة.

نظر إليّ مُستغربًا، وتردد قليلًا، ولكنّه استسلم على مَضض خشية الهزيمة.

وقال: أيها الإخوة؛ إذا سمحتم التزموا جانب الصمت قليلًا، واتركوا الحوارات الجانبية الثنائية؛ لأن أخي يُريد أن يُدلي بدلوه في القضية.

وفعلًا؛ سكت الجميع، ونظروا باتجاهي، فسارعت بإظهار ابتسامة عرضتها على الجميع تَوَدُّدًا.

وقلت لهم: إذا سمحتم أريد أن يكون النقاش بيني وبين الأخ الضابط فقط.

فأشار الضابط إليهم، وطلب منهم السكوت، وعدم التدخل أبدًا. وقال: لقد سمعنا القول الكثير، ولا يضر أن نسمع قولك، فهات ما عندك، وابتسم ابتسامة صفراء، ونفخ صدره.

فقلت له: أخي الكريم! هل من الممكن أن تنسى ما تم عرضه سابقًا في الجلسة، مع احترامي لآراء الجميع، وذلك حتى لا نتأثر بأقوالهم؟

قال وهو واثق من نفسه: على الرَّحب والسَّعة، لنرى ماذا عندك؟

قلت: عندي ثلاثة أسئلة، أريد أن أطرحها عليك قبل الحوار، وأريد أن أسمع الجواب منك أمام الحشد الكريم.

قال: هات ما عندك؟

وأظهرَ شيئًا من التبرُّم والضيق!

قلت: قبل أن أعرض الأسئلة، أريد أن أعرف ما مدى قناعتك بالمقولة التي تقول:

(كان الله ولم يكن شيء غيره) ؟

قال: هي مقولة صحيحة، وأنا أؤمن بها.

قلت: حسنٌ؛ فلنستصحب ذلك القول معنا أثناء الجواب على الأسئلة.

اسمع:

س1- عندما خلق الله الشيء، هل دخل فيه؟.

س2- عندما خلق الله الشيء، هل خلقه في نفسه؟

س3 – أليس وجود الله مُغايرًا لوجود الشيء؟.

فنظر إليّ مَلِيًّا! ثمّ قطبَ حاجبيه! وارتفع صوته عاليًا، وصاح: أنا لا أناقشك، أنتَ.

وسرعان ما تَدَخَّل السلفيون، وقد رجعت إليهم الروح، وقالوا: بل هو معنا، وواحد منا، ونحن نتبنى قوله، وأنتَ مُلزم بالرد عليه، وإلا يُعَدُّ سكوتك هزيمة، وانسحابًا من الحوار!

وارتفعت الأصوات، وعلا الضجيج، وانفضّ المجلس على تلك الفوضى العارمة، والتَفَّ شبابُ فتح حولي يسألونني في مسائل شتى، والسلفيون ينظرون إليّ كارهين، وحَثَّني صاحبي الذي رافقني في السفر على الرحيل، خشية الفتنة. فانسحبت بأدب، وسارعت في الانصراف.