هذا أبو نديم

كنت في زيارة لأحد أصحابي؛ في قرية نائية، فعرض عليَّ زيارة مَضافة القوم، فذهبنا إليها، ولما وصلنا ودخلنا، لاحظتُ وجود كلب أسود في جانب المضافة؛ لأنها كانت مبنية على نظام البناء العربي، فلا يوجد درج لها، ومدخلها يبدأ بمساحة فُرشت بالحصى والحجارة الصغيرة لتجنب الطين والأوساخ.

أفزعني وجود الكلب وما يحمله من مخاطر محتملة، فهمست بأذن صاحبي: لماذا لا تطردون هذا الكلب من المضافة؟

فضحك! وقال: كيف نطرده؟ هذا أبو نديم.

قلت مستغربًا: ومَنْ أبو نديم هذا؟

قال: سوف أقُصُّ لك القصة فيما بعد.

قلت: لا بأس.

وأمضينا زيارتنا بسرور، وتعرفتُ خلالها على كثير من أفراد القوم الكرماء، وأسعدتني عاداتهم العربية العريقة، وتناولنا الغداء على مائدتهم العامرة.

وبعد أن عُدنا إلى بيت صاحبي، استلقى كل منّا على فراشه.

قلتُ لصاحبي: أخبرني قصة أبي نديم؟ فأنا في شوق لها.

قال: يا سيدي! أبو نديم كان رجلًا شريرًا، وتوفِّي، وبعد فترة من الزمن جاء كلب أسود إلى المضافة وبدأ ينظر يمنة ويسرة، فناداه كبير القوم، فأتى إليه مطأطئ الرأس، ولما وصل إليه، أقعى على ذنبه، وبدأ يلهث، وينظر إلى كبير القوم، فنظر إليه مبتسمًا، وقال له: عرفتك لا شك أنك أبو نديم، فنبح الكلب! فقام الشيخ وربتَ على رأسه. وتوجَّه إلى القوم قائلًا: هذا أبو نديم قد جاءكم تائبًا نادمًا، فلا تمنعوه من دخول المضافة بعد الآن؟.

وفعلًا يذهب الكلب، ويغيب ساعات طويلة، ثم يعود إلى المضافة، التي جعلها مقرًّا له، وصار الناس يُطعمونه، ويَربُتون على رأسه كلما دخلوا، بل صاروا ينادونه: أبا نديم، ومن كثرة تكرار ذلك على أذن الكلب صار يستجيب لندائهم، فثبت عندهم أنه فعلًا أبو نديم.

قلت: وما علاقة أبي نديم بهذا الكلب الأسود؟

قال: نحن نؤمن بالتقمص.

قلت: وما هو التقمص؟

قال: نحن نعتقد أن الناس الصالحين يعودون بعد وفاتهم إلى الحياة في أجساد بشرية أخرى في مكان وزمان مختلف عن الأول، بينما الناس الأشرار يعودون إلى الحياة في أجساد الحيوانات، وذلك حسب درجة شرهم.

قلت: إذًا؛ الكلب الأسود هو صورة جسدية لأبي نديم الشرير؟

قال: نعم! هكذا نعتقد.

قلت: وأنت تعتقد ذلك؟

قال: ما أنا إلا واحد من قومي، وأعتقد ما يعتقدون.

قلت: هل قُمتَ مرة بنقاش هذه الفكرة، مستكشفًا مدى مصداقيتها في الواقع؟

قال: ومَن مِن الناس مِن كل الطوائف، يقوم بهذه العملية العقلية؟ هذا الأمر موروث ديني مقدس غير قابل للنقاش والجدال.

قلت: ولكن الأمر على درجة من الأهمية والخطورة.

قال: هل كل أفراد المسلمين قد تحققوا من مصداقية عقيدتهم، وثبت لديهم بالبرهان العلمي أن القرءان فعلًا من الله U، ولم يصبه التحريف أبدًا؟

قلت: عدم حصول ذلك من معظم الناس، لا يُعطيك مبررًا لأن تقبل الأساطير.

قال: هل تعلم أن الذين يؤمنون بالتقمص في العالم في ازدياد، وربما أكثر من المسلمين كافة.

قلت: نعم! أعلم أن معظم سكان الشرق الأقصى يؤمنون بالتقمص، وأكثر الفلاسفة الإشراقيين يؤمنون بالتقمص، وهناك فرق إسلامية، تؤمن بالتقمص.

قال: إذًا! هي عقيدة عالمية، ويتبعها مئات الملايين من الناس.

قلت: ليس كذلك تُناقش الأفكار! فعملية الانتشار أو الأكثرية، أو التقادم الزمني الطويل على فكر مُعين، لا يُعطيه صفة البرهان على أحقيته أو صوابه.

قال: يا صاحبي! مالك ولهذه الأفكار؟ أنت راضٍ عن فكرك، دع الآخرين كذلك.

قلت: أنا راض عن فكري، ولكن بعد دراسة وتمحيص، وما زلتُ إلى الآن أقوم بعملية تحديث دائمة لأفكاري، وأنا لا أمنع الآخرين من اعتقاد ما يرونه صوابًا، ولكن هذا لا يُلغي أهمية النقاش والحوار؛ لأنهما طريقة فعَّالة لتحديث الفكر والاطِّلاع على ما عند الآخرين، شريطة عدم التعرض بالسخرية لأيِّ فكر يحمله أيُّ إنسان، وبذلك يكون الحوار جسرًا يُسَهّل عملية التواصل مع الآخرين واحترامهم وفرصة لصقل الأفكار، ومعرفة مصداقيتها على أرض الواقع.

قال: يا صاحبي! الأمر أكبر مني ومنك، وأنا لا أناقش هذه الأفكار، ولا تهمني النتيجة في شيء.

قلت: عجبًا يا صاحبي، ألا يهمك كيف تعيش؟ ومن أجل ماذا؟ وإلى أين تذهب بعد الموت؟ أهناك حساب ومسؤولية عن أعمالنا، أم لا يوجد؟ أسئلة مصيرية مرتبطة بحياة الإنسان منذ بداية وجوده على سطح الأرض، وشغلت عقول كبار الفلاسفة قديمًا وحديثًا، وما زالت العُقدة الكبرى في الفلسفة متمثلة بثلاثة أسئلة: كيف، لماذا، أين؟ وانتظرت الجواب! فلم أسمع سوى شخير صاحبي النائم.