لاينسب لساكت قول، لكن السكوت في معرض الحاجة بيان
ينبغي أن نفرق بين قاعدة الأحكام وقاعدة المفاهيم ، فلا شك أن قاعدة الاحكام هي: ماسكت عنه المشرع فهو اقرار له ، ولذلك وضع علماءالأصول قاعدة : الأصل في الأشياء الإباحة إلا النص، أو الحرام مقيد بالنص والمباح مطلق، فهل هذا ينطبق على المفاهيم والأفكار والعلاقات بين الناس مواقفهم؟
نجد أن المفاهيم والافكار ومواقف الناس فيما بينهم لها قاعدة مختلفة تقول: لاينسب لساكت قول أو موقف أورأي مالم يصرح به، وهذه القاعدة لايوجد لها استثناء ولا حتى عن اسلوب صياغة القرءان وسرده للأخبار والحوارات، فذكر حوار بين اثنين أو خبر عن حدث وعدم تعقيب القرءان عليه واظهار موقف منه لايدل على موافقته او أن الكلام صواب ، وقد يكون الكلام صواب وقد يكون خطأ وباطل ، وهذا يعرف من المنظومة القرءانية العامة ومن المنطق، وهي قاعدة تندرج تحت قاعدة أكبر: “اليقين لايزول بالشك”؛ فاليقين أن الصامت لم يتكلّم. وتفسير صمته بالموافقة أو عدمها لا يرقى إلى درجة التصريح بالقول. لنقرأ:
1- {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }الحجر39
2- النص ذكر كلمة الرب وهي لاتعني الله بالضرورة وهذا ليس محل النقاش حالياً.
3- لم يأت قبل كلام إبليس أو بعده أي تعقيب من الله أو الرب على أنه صواب أو خطأ، وإنما ترك معرفة صوابه من خطئه للمتلقي للخطاب من خلال المنظومة والمنطق، فهل يقوم الله بغواية عباده وهو أمرهم بالهدى والصلاح والإيمان؟
4- كلمة غوى خلاف الرشاد والنور والهداية وتعني الابتعاد والضلال والغياب عن الحق، وظهر معنى تزيين الباطل ثقافة لأن تزيين الباطل أو المعصية او الشر للآخر هو إضلاله وتغييبه عن الحقيقة.
5- فهل يقوم الله بإضلال عباده وتغييب الحقيقة عنهم وتزيين المعاصي والباطل في قلوبهم؟
– والجواب هو ان الله يقوم بالخير والرشاد والحق والصواب ، لنقرأ:
1- {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }الحجرات7
2- {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }الزمر7
فالغواية للعباد ليس من عمل الله وهذا يتنافى مع ألوهيته وينقض الحكمة ، الغواية من عمل الشيطان والمجرمين فهم الذين يغوون الناس ويزينون لهم المعاصي والكفر .
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ }الصافات32، والكلام عن المجرمين الذين هلكوا وخسروا وخابوا ودخلوا جهنم فهم الذين أغووا أتباعهم بالكفر والظلم والمعاصي ، وبرروا فعلهم انهم كانوا هم غاوين فطبيعي الغاوي يغوي الآخرين ولايهدي للخير والرشاد
أما القول إن فعل الغواية مثل فعل الضلال والزيغ وكما ينسب الإضلال والزيغ لله في بعض النصوص فالغواية أيضا كذلك، فهذا كلام غير صواب.
لنقرأ:
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }النساء88
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ }البقرة26
فدلالة كلمة ضل غير دلالة كلمة الغواية ، ضل تعني ضياع الإنسان وتخبطه لايعلم الحقيقة من الباطل أو الصواب من الخطأ فهي حالة اضطراب وحيرة وشك ، وهذه الحالة تصيب معظم الناس في تعاملهم وأثناء بحثهم عن الحقيقة، لنقرأ :
{وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى }الضحى7، فهذا الضلال ليس كفراً او ظلماً هو حالة حيرة وضياع وتخبط وشك، والسؤال هو هل يقوم الله ابتداء بفعل الإضلال لعباده؟
والجواب قطعا بالنفي ، فالله هدى الناس ابتداء بالفطرة و العقل والواقع والنبيين والرسل، فكيف يكون فهم نسبة الضلال لله كفعل؟
الجواب أتى في النص : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) وهذا يعني أن فعل الضلال هو قرار واختيار من الإنسان نفسه ابتداء، وحينما يَضل يُضله الله بمعنى يتركه ويخذله لقراره واختياره، إذا لايصح القول منفرداً إن الله يُضل عباده ، او أن الله مُضل!، وكذلك فعل الزيغ ( فلما زاغوا هم أزاغ الله قلوبهم!
فلذلك ينبغي التقيد بالنص القرءاني وعدم قياس الأمور على بعضها رغم اختلافها ، بمعنى هل ورد فعل الغواية ينسب لله وينسب للفاسقين أو الكفار على نمط ذكر الضلال والزيغ ؟ بمعنى هل يوجد جملة أتت بصيغة ( ومن يُغويه الله فلا هادي له ) أو ماشابه تلك الصيغة ؟
فعل الغواية عمل الشياطين والمجرمين وليس من عمل الله أو الصالحين، هل يعقل أن الله يغوي إبليس ، وإبليس بدوره يقول له كما أغويتني فسوف أنتقم منك وأغوي عبادك، وبالتالي يصير فعل الإغواء مشترك بين الله وإبليس وكلاهما يقومان بالإغواء!!!
وطالما ثبت لدينا أن فعل الإغواء لايقوم به الله لتناقضه مع اسمه الحكيم، وإبليس نسب فعل الإغواء للرب ليبرر موقفه وعصيانه ويتنصل من المسؤولية ، ولم يأت أي تعقيب من الرب على كلام إبليس، وهذه النسبة باطلة في واقع الحال وعذر مرفوض حسب منظومة القرءان والمنطق، ومع ذلك لم يعقب على قوله بالصح أو الخطأ، ووفق القاعدة المنطقية ( لاينسب لساكت موقف أو قول) نقول :إن القاعدة في فهم وتدبر تلك الحوارات والأخبار هي: نقل القرءان لكلام الآخرين هو مجرد نقل للأحداث والحوار كما حصل ، ولايشترط صحة مضمونه أو خطئه مالم يعقب عليها ويحكم عليها بالخطأ أو البطلان، ويعرف صحة تلك الأقوال أو خطئها من المنظومة القرءانية والمنطق
وصلنا الآن إلى كلام النبي نوح: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }هود34، هذا النص ينطبق عليه ماذكرنا آنفاً، فهو كلام النبي نوح وليس كلام الله ، و قصد النبي نوح من كلامه إن دعوته لقومه لها جدوى وفائدة ويمكن لقومه أن يهتدوا ويتركوا الكفر والضلال ويصيروا مؤمنين، ولولا قناعته هذه لما دعاهم أصلاً، ولذلك قال : لاينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم وأراد الله أن يغويكم، لأنه يصير تصادم إرادات ، إرادة النبي نوح الخير والهداية لقومه وإرادة الله لهم الشر والغواية والضلال، والكلام أتى من النبي نوح على سبيل التفهيم لقومه أن الأمر لو كان كذلك وهو غير صحيح لما دعوتكم لعدم جدوى الدعوة، والواقع أن الله لايغوي عباده بل يحب لهم الهداية والخير والرشاد.
اقرؤوا هذه النصوص ولاحظوا هل هي صواب في مضمونها لمجرد أن الله لم يستنكرها أو يؤيدها أم تحتاج دراسة منطقية سواء في منظومة الحدث أو في الواقع لمعرفة صوابها من خطئها :
– {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }الأنبياء63
– {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }طه94
– {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }القصص38
– {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }الأحزاب68
اضف تعليقا