مفهوم الوجود والحق
الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم واحد ومعاني متعددة تظهر وفق السياق وتعلق الخطاب في الواقع، ولا يدل على الكلمة إلا ذاتها لأن كل كلمة تحمل مفهومها بمبناها الصوتي ( وإذا اختلف المبنى اختلف مفهوم الكلمة ومعناها في الواقع حين الاستخدام لها ) وهذا يعني أن شرح دلالة كلمة إنما هو لتقريب المعنى وليس لحصرها في هذه الكلمات أو أن تحل محلها، وعند قيامنا بشرح دلالة كلمة لابد من استخدام عدة كلمات لنصل إلى المعنى تقريبًا ونقربه للسامع، وعندما يصل المعنى للمتلقي نطلب منه حذف كل الكلمات والاحتفاظ بالمعنى والمفهوم العام الذي حصل عنده لدلالة الكلمة محل الدراسة أو الشرح .
دلالة كلمة حق: الحاء والقاف أصل واحد يدل على إحكام الشيء وصحته، والحق نقيض الباطل. ( مقاييس اللغة).
لا يدل على كلمة الحق إلا كلمة الحق ذاتها ، فالحق هو الحق وليس غيره من الكلمات، ولتقريب المفهوم لها نقول:
حق: تدل حسب ترتيب أصواتها على ثبوت وجود الأمر أو الشيء وإحكامه ولزومه وصوابه قطعاً وما شابه ذلك من كلمات تدل على الحق، فإن وصل مفهوم الحق ومعانيها المستخدمة لك احذف بقية الكلمات واحتفظ بكلمة الحق وما حصل من علم في ذهنك عنها، فالحق هو الحق.
إذًا دلالة كلمة الحق هي صفة حكم تطلق على طبيعة وجود الأمور أو الأشياء سواء كثبوت أو صحة أو لزوم أو إحكام، ولذلك نقيض الحق هو الباطل الذي يدل على نفي وجوده أو ثبوته أو صوابه أو إحكامه أو لزومه.
لنقرأ:
– {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الحج6
أتت كلمة الحق لتدل على ثبوت وجود كينونة الله بشكل قطعي وأنه ليس باطلاً ولا وهماً
– {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }لقمان30
أتت كلمة الحق لتدل على ثبوت كينونة الله ذاتياً بأسمائه الحسنى وعظمته وجلاله ووحدانيته وأنه هو الحي القيوم، ولذلك لا يصح العبادة والدعاء إلا له، أما الجهات الأخرى رغم أن لها وجود ثابت في الواقع ولكنها لا تقوم بذاتها ولا تملك الأسماء الحسنى والعظمة والجلال فهي باطلة من هذا الوجه ولا يعني أنها غير موجودة؛ بل هي موجودة ككائنات محدودة قاصرة ضعيفة محتاجة وبالتالي دعوتها وعبادتها خلاف الصواب وهذا الفعل باطل لأنه في غير محله وخلاف الحق.
– {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ }البقرة282
دلالة كلمة الحق في النص أتت بمعنى الثبوت والصواب والشيء اللازم لمقتضى الحال كما هو ، ونلاحظ أن كلمة الحق تعلقت بشيء معنوي علمي وليس ماديًا .
– {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران62
أتت كلمة الحق بمعنى الشيء الثابت حصوله في الوجود وهو صدق وصواب وليس وهماً ولا كذباً ولا باطلاً.
– {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }آل عمران154
أتت كلمة (غير الحق) بمعنى أنهم يظنون بالله كأسماء وصفات وأفعال أنها باطلة أو كذب أو وهم أو خلاف الصواب
– {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }الذاريات23
أتت كلمة الحق لتدل على حصول يوم الدين بشكل ثابت كحدث في الواقع مثل ثبوت حصول فعل النطق عند الإنسان
وليس هو باطل أو وهماً.
– {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }الذاريات19
أتت كلمة الحق لتدل على لزوم وثبوت حكم حصول السائل والمحروم على حاجتهم من مال الأغنياء وأن ذلك واجب عليهم دون منية ولا تكبراً.
إذا كلمة الحق تتعلق بحكم على ثبوت وجود الأمر أو الشيء على ما هو عليه، أو تتعلق بحكم على أسمائه أوصفاته أو أفعاله، ومن هذا الوجه نقول: حقوق الناس، والمعنى ما هو ثابت للناس ولازم لهم بشكل قطعي وصواب
لنرى الآن مفهوم الوجود
قبل عرض أنواع الوجود لابد من ذكر أن الوجود الحقيقي (المادي) يتعلق باثنين فقط، وجود أزلي تمثل بكينونة الخالق المدبر فقط، ووجود حادث وهو كل ما سوى الله، فوجود الله حق، ووجود الإنسان حق وكذلك السموات والأرض بمعنى أن وجودهم أمر ثابت مدرك وليس وهماً ولا باطلاً.
وكلمة الوجود تتعلق أيضاً بغير الوجود المادي ، وهذا يعني أن كلمة الحق والباطل أيضا تتعلق بكلمة الوجود حسب نوعه وطبيعته، مع الانتباه لعدم جعل الألفاظ تحكمنا أو تصير هي محل النقاش والاختلاف ونركز على المفهوم و المضمون.
1- الوجود الذهني: وهو وجود تصورات في الذهن قد يكون لها إمكانية التحقق خارج الذهن مثل الخيال العلمي ،وقد تكون غير ممكنة التحقق مثل الخرافات والأوهام.
2- الوجود التجريدي: هو وجود سنني وقانوني وقواعدي لايوجد لها تجسيد في الواقع مثل العلم الرياضي والمنطق، وإنما تستخدم في الإيجاد والدراسة أو الحكم على الشيء، فهي علوم معيارية حكمية إنشائية.
3- الوجود الذاتي: هو تعلق وجود الشيء بممارستك له واتصافك به وقناعتك مثل الأخلاق والقيم.
4- الوجود الموضوعي (المادي): هو الوجود الحقيقي خارج الذهن الإنساني وليس هو عرضاً أوصفة، ولا يستمد وجوده من العلم به نفياً أو إثباتاً أو الحكم عليه، مثل وجود الخالق المدبر ووجود السماء والأرض والإنسان ذاته.
5- الوجود الصفات والأسماء: وهو وجود يقوم بالوجود الموضوعي لزوماً مثل أسماء الله الحسنى أو أبعاد الوجود
الحادث المادي مثل الطول والعرض والارتفاع والزمن والحركة والكتلة والشكل … الخ ، ومثل وجود ظاهرة تتعلق بحركة أو تفاعل الوجود الموضوعي، ولا وجود لها بذاتها موضوعياً، مثل الحرارة والبرودة، ووجود هذا النوع هو وجود حق وليس وهماً ولا باطلاً، وهذا ما يقال عنه وجود موضوعي حقيقي لتعلقه بالوجود الموضوعي الحقيقي ( المادي)
6- الوجود العلمي: هو وجود معلومات بالذهن متعلقة بالشيء نفياً أو إثباتاً أو حكماً أو عن كينونة الشيء وسيرورته وصيرورته بصرف النظر عن حصوله أو سوف يحصل فيما بعد، وإمكانية تسخير هذا العلم للتحكم بحركة الشيء وتوجيهه أو توظيفه.
7- الوجود الشعوري: هو وجود تفاعلات نفسية واعية في الإنسان تحركه وتدفعه نحو سلوك معين، مثل الحب والكراهية و الخوف.
8- الوجود الحسي: هو وجود انفعالات جسمية عصبية تنقل الإحساس بالأحداث إلى مركز الدماغ ليتعامل معها وفق برمجته
9- الوجود الكتابي: وهو وجود متعلق بالحفظ والجمع للشيء موضوعياً بصرف النظر عن الوسيلة بالخط على الصحف أو النقش على الحجر، أو أي وسيلة تقنية .
10- الوجود اللفظي: وهو وجود ذكر صوتي واعي محفوظ في ذاكرة المجتمع وثقافته.
11- الوجود التاريخي: وهو وجود لأحداث ماضية في ذاكرة المجتمع
12- الوجود الحاضري : وهو وجود حقيقي للمجتمع بشكل واعي يعمل لنهضته وارتقائه.
13- الوجود المستقبلي: هو طموحات المجتمع وأهدافه وحركته الواعية في الحاضر لما يريد أن يكون ويحصل عليه.
14- الوجود الحادث: وهو كل وجود له بداية سواء ظهر وجوده أو لم يظهر ، وهو من دائرة ممكن الوجود أو نفيه
15- الوجود الأزلي: وهو الوجود الذي ليس له بداية وسرمدي في الاستمرار على ما هو عليه، وهو واجب الوجود لتعلق الوجود الحادث به
16- المستحيل الوجود: وهو تصور نفي واجب الوجود، أو أن يصير الحادث أزليًا.
إذا كلمة الوجود والحق تطلقان على الوجود الموضوعي الحقيقي ( المادي) بنوعيه الأزلي والحادث، وتطلق على الوجود الموضوعي الذي يتعلق بالوجود المادي لزوماً، فنقول وجود كينونة الله حق، ووجود أسماء لله لازمة له حق، وكذلك وجود الإنسان حق ووجود أبعاد له لازمة حق، وكلاهما لهما وجود موضوعي ولكن يختلف طبيعة وجودهم حسب اختلاف الكينونة، فالأسماء والأبعاد ليست وهماً ولا باطلاً وإنما هي قائمة بمحلها و ثابتة لزوماً
اضف تعليقا