Skip to content
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
يقدّم النصّ القرآني في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأعراف: 194]
نموذجًا فريدًا في بناء البرهان المنطقي واللساني، إذ يقيم الحجة على مستوى العقل والواقع معًا، دون الحاجة إلى جدل فلسفي أو استحضار أسطوري. فهو خطاب موجّه إلى الوعي الإنساني بوسائل التجربة والاختبار المباشر، ويقوم على مبدأٍ سننيّ قاطع: أن الفاعلية في الكون واحدة المصدر، وأن كلّ ما يُدعى من دون الله خاضع للنظام ذاته الذي يخضع له الداعي نفسه.
-
الإطار اللساني للنصّ
يبدأ النصّ بالفعل «تَدْعُونَ»، من الجذر (د ع و)، وهو جذر يدلّ على النداء الموجَّه نحو الخارج بهدف استحضار استجابة أو تأثير. والدعاء في لسان القرآن ليس نطقًا صوتيًا فحسب، بل فعلٌ إراديٌّ يتضمن توجيه الرغبة أو الطلب نحو جهةٍ يُظنّ فيها القدرة على التصرّف في مجرى الواقع. وعليه، فالمقصود بـ «الذين تدعون» كلّ كيانٍ أو قوةٍ أو نظامٍ يرفع الإنسان إليه حاجته ظنًّا أنه يملك تأثيرًا مستقلًا خارج عن حدود الأسباب الطبيعية التي أودعها الله في الكون.
أما عبارة “مِن دُونِ اللَّهِ” فتأتي لتصف طبيعة هذا الانحراف؛ إذ يشير حرف “دون” إلى موضعٍ أدنى أو خارجٍ عن النطاق المرجعي الأعلى، أي أنكم تتوجهون إلى جهاتٍ تعمل في غير مستوى السلطة الإلهية الفاعلة، وكأنكم فصلتم الفعل عن مصدره الكلي.
ثمّ يأتي الوصف الحاسم: “عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ”، وهو قلب البرهان. فلفظة عباد من الجذر (ع ب د)، الذي يدلّ على الانقياد والتوجّه الملتزم بمنظومةٍ أعلى. وكلّ من خضع لنظام الله في الوجود فهو عبد، أي كائن يسير وفق السنن التي قُدّرت له. والمعنى إذًا: إن الذين تتوجهون إليهم بالدعاء هم أنفسهم محكومون بالقوانين نفسها التي تحكمكم، خاضعون للأسباب والمحدوديات ذاتها، لا يملكون تجاوزها أو تغييرها.
بهذا التوصيف اللساني، يبيّن النص أنّ المسألة لا تتعلق بأصنام جامدة أو رموز وثنية بالضرورة، بل تشمل كلّ من يُمنَح سلطة فوقية زائفة، سواء أكان بشرًا، أو نظامًا، أو مبدأً مجردًا، أو كيانًا غيبيًّا، مادام يخضع لسنن الله الكونية ولا يمتلك سلطانًا فعليًا مستقلًا.
-
البناء المنطقي للحجة القرآنية
الحجة التي يقيمها النص تقوم على اختبارٍ واقعيٍّ بسيط:
“فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”.
إنها صيغة تحدٍّ تجريبي: إن كنتم تزعمون أن لتلك الجهات سلطةً على مجريات الواقع، فادعوها لتفعل، لتظهر قدرتها بالفعل لا بالوصف. فإن لم تستطع الاستجابة، سقط الادعاء تلقائيًا.
هذه الصيغة هي من أدقّ أشكال البرهان المنطقي، لأنها تنقل النقاش من مستوى الادعاء المجرد إلى مستوى التجربة القابلة للتحقق. فإمّا أن يحدث الأثر المدّعى، فيثبت الصدق، أو يتخلّف، فيثبت أن ما تدعونه ليس فاعلًا بل مفعولًا، عبدٌ مثلكم لا يملك من السنن شيئًا.
وهنا يكمن التفوق المحكم للنصّ القرآني: إذ يجمع بين المنهج التجريبي والمبدأ العقلي في وقتٍ واحد. فلا هو جدل ميتافيزيقي، ولا هو تجربة مادية محضة، بل اختبارٌ واقعيٌّ مبنيٌّ على سنن الوجود، يطلب الدليل من جنس الفعل المدّعى.
-
الفارق بين العبادية والفاعلية
عندما يقول النص «عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»، فهو يقرر مبدأ المساواة في الخضوع للسنن، لا في الشكل أو الدرجة الوجودية. فكلّ مخلوق – مهما علا قدره أو رُفعت مكانته – يبقى ضمن النظام الإلهي الواحد، لا يخرج عن قانون السبب والنتيجة، ولا يملك الإذن الفعليّ إلا بإرادة الله، أي بتحقق السبب ضمن منظومته.
هنا تتجلى دقة التفريق بين علم الله الأزليّ التجريديّ وعلمه الفعليّ المتعلق بالشيء. فعلم الله الأزليّ علم إنشائي تجريدي غير شيئي كمثل علم الرياضيات، أما علمه الفعليّ فيتعلّق بتحقق الشيء في واقعه المادي والزمني. فالذين يُدعون من دون الله لا يملكون أن يُحدثوا علمًا فعليًّا جديدًا أو أثرًا مستقلًا، لأن فعلهم لا يخرج عن دائرة الإذن الإلهي التي تحدّد ما يتحقق وما يُعطل.
-
مفهوم «الإذن» في نظام الدعاء والاستجابة
القرآن يربط دائمًا بين الاستجابة والإذن:
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾،
﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
فالإذن هو التعبير القرآني عن تحقق الأسباب ضمن النظام الكوني الموضوع.
أي إنّ الاستجابة ليست خروجًا عن السنن، بل وقوعًا داخلها في الوقت والمقدار المناسبين.
فمن يُدعى من دون الله لا يملك هذا الإذن، لأن فعله ذاته مقيد بسنن الله، لا يصدر عنه إلا ما قدّره الله له من حدود القدرة.
ومن هنا يتضح أن التحدي الإلهي في قوله «فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين» هو في جوهره بيانٌ سننيّ:
من لم يملك الإذن الفعلي لن يستطيع الاستجابة، لأن النظام لا يُخترق إلا من داخله، لا بخارجه.
-
دحض الاعتراض القائم على التجريب المعاكس
قد يقول قائل: «فليدعُ أحدكم الله دعاءً صريحًا، فإن استجاب آمنا، وإن لم يستجب فهو إله في الأذهان لا في الواقع».
هذا الطرح، من الناحية المنطقية، مغالطة في المنهج؛ لأنه يفترض أن الإله الحق يجب أن يتصرف وفق رغبة الفرد ولحظته، أي أن يبدّل السنن عند الطلب، في حين أن الاستجابة الإلهية تتم داخل نظام الأسباب لا خارجه.
فكما أن تأخر إنبات البذرة لا ينفي وجود قانون النبات، كذلك تأخر الإجابة لا ينفي وجود الفاعل الأعلى.
بل إنّ الدعاء في ذاته خضوع للسنن وتفاعل معها، لا اختبارًا لها.
-
الدلالة الكونية والإنسانية للآية
بهذا الفهم، تغدو الآية إعلانًا لوحدة النظام الكوني لا لنفي وجود شركاء رمزيين فحسب.
فهي تضع الإنسان أمام وعيٍ سننيّ: أن كلّ من يُتوهم فيه التأثير المستقل هو عبد خاضع لقوانين الله.
القدرة الحقيقية ليست في الأشكال، بل في منظومة الفعل الكلي التي تمسك بالكون كله.
وهذا الإدراك هو أساس التوحيد القرآني: ليس مجرد اعتقادٍ عقدي، بل وعيٌ عمليٌّ بأن مصدر التأثير في الوجود واحد، وأن كل الكائنات تتحرك ضمن حدود إذنه.
-
الخاتمة
الآية الكريمة ليست جدلًا في عبادة أصنام جامدة، بل برهانٌ شاملٌ على وحدة الفاعلية في الوجود.
فهي تدعو الإنسان إلى اختبارٍ واقعيٍّ بسيط يكشف زيف كل سلطة متوهَّمة، وتعيد تعريف مفهوم الألوهية في ضوء السنن الكونية الثابتة.
إن الذين يُدعون من دون الله – مهما كانت أشكالهم أو مراتبهم – عبادٌ أمثالكم، أي كائنات تخضع للنظام نفسه، لا تملك الخروج عنه، ولا الاستجابة خارج إذن الله.
وهكذا يقدّم النص القرآني نموذجًا فريدًا في إقامة البرهان:
برهانٌ لساني ومنطقيٌّ وسننيّ، يربط الإيمان بالوعي بالقوانين، ويجعل من التوحيد إدراكًا عقليًا وواقعيًا قبل أن يكون مجرّد إقرارٍ لفظي.
samer Islamboli2025-10-13T13:25:21+03:00
شارك المحتوى على مواقع التواصل
Page load link
اضف تعليقا