الوحش والأنس: قراءة في المفهوم القرآني والدلالة الصوتية

يشكل الثنائي الوحش – الأنس أحد المفاتيح اللسانية لفهم العلاقة بين الإنسان ومحيطه في القرآن الكريم. فالوحشية ليست وصفًا للحيوانات وحدها، بل هي حالة عامة تطال كل من فقد صلته بالمودة والسكينة، أي خرج من دائرة الأنس إلى دائرة التوحش.

الدلالة الصوتية للجذر (وحش)

إذا تفككنا أصوات كلمة وحش وجدنا:

  • و: حركة مد منضم مكانيًا، تمثل انفتاحًا في الامتداد.

  • ح: حركة متسعة بأرجحة منضبطة، تدل على فضاء رحب لكنه متفلّت.

  • ش: حركة انتشار وتشعب غير مضبوط، تمثل التبعثر والانفلات.

هذا التركيب الصوتي يرسم صورة لكائن أو حالة منفلتة متسعة متشعبة بلا ضابط، وهو عين ما تعنيه الوحشية.

الوحشية في القرآن

القرآن يستخدم تعبير الوحوش في سياق مشهدي لهول يوم القيامة:

{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5].

التقليد الشائع يذهب إلى أن المقصود بها بهائم الأرض، لكن التدبر الدقيق يفتح أفقًا آخر: فالبهائم لا تُجمع ولا تُبعث يوم القيامة، بل تعود إلى أصلها الترابي وتتحلل عناصرها، لأنها ليست محل خطاب ولا جزاء. أما الوحوش المحشورة فهي أقرب إلى وصف المجرمين من الناس الذين عاشوا في حالة انقطاع عن الأنس، وانسلاخ عن المودة والرحمة، فصاروا وحوشًا بشرية. الحشر هنا إذن هو تجميع هؤلاء في مشهد الحساب والجزاء.

الأنس: الضد القرآني للتوحش

مقابل الوحشية نجد الأنس، وهو حالة من الانسجام والطمأنينة بين الكائن والآخر. جاء النص القرآني يبرز هذا المعنى:

{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىٰ} [طه: 11-23].

هنا يبرز معنى الأنس في السياق العملي: موسى يُستأنس بنداء ربه ويطمئن بوحيه، في مقابل ما قد يثيره المشهد المهيب من خوف. الأنس إذن هو السكينة الناشئة عن حضور المعنى والارتباط بالحق، وهو الضد المباشر للتوحش.

بين الأنس والتوحش

  • الوحشية: خروج عن نظام المودة، انفلات وتشعب بلا ضابط.

  • الأنس: اجتماع على المودة، سكينة في الحضور، وضبط للعلاقة بين الذات والآخر.

ولأن البهائم ليست محل تكليف ولا خطاب، فهي ليست طرفًا في ثنائية الأنس/التوحش. محل الخطاب هو الإنسان وحده؛ فإذا عاش في الرحمة صار أنسًا، وإذا انسلخ عنها صار وحشًا.

خاتمة

القرآن يضع أمامنا مفترقًا واضحًا: إمّا أن نكون في دائرة الأنس حيث الطمأنينة والرحمة، وإما أن ننزلق إلى حالة التوحش حيث الانفلات والعدوان. بذلك يتبين أن الآية {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} ليست تصويرًا حيوانيًا، بل كشف عن مصير الوحوش البشرية التي فقدت إنسانيتها، لتقف يوم القيامة أمام عدل الله.