التّبنّي للأطفال

قال تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [الأحزاب: 45].

إن مفتاح فَهْم النصّ هو فَهْم دلالة كلمة (أبناء)، ودلالة كلمة (آباء).

ابن: من (بن)، وهي تدلُّ على الإقامة واللزوم والتابعية، وضمّ شيء إلى آخر.

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } [المائدة: 18].

ولم يقصد اليهود والنصارى أنهم أولاد الله، بل قصدوا أنهم مُصطفون من دون الناس، ويحظون بمعاملة خاصة من قِبَل الخالق، فأجابهم ربُّ العزَّة بقوله: { بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } [المائدة: 18].

وقال: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23].

وجملة { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} تدلُّ على إمكانية وجود أبناء لنا، ليسوا من أصلابنا.

قال أيضًا: { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [النساء: 36].

فكلمة ( وَابْنِ السَّبِيلِ)لا تعني ولد السبيل، وإنما تعني التابعية، ونسبة شيء إلى آخر، كقولنا: ابن البلد، وابن الجامعة، وابن المسجد…إلخ.

أمَّا كلمة ولد؛ فهي تدلُّ على خروج شيء من شيء، ومنه الولادة المعروفة، واسم الفاعل (الوالد) التي تدلُّ على خروج شيء منه، واسم المفعول كلمة (المولود).

وقد نفى الله – عزّ وجلّ – عن نفسه صفة الولادة له، أو منه (والد، ومولود) بقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص:3]، ونفى عن نفسه اتخاذ الابن، أو الصاحبة، أو الأسرة، أو العشيرة، بقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص:4].).

أمَّا كلمة (أب)؛ فهي من التربية والعناية، وهي تدلُّ على الأصل والمركز.

قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [الأحزاب 40].

ومن المعروف أن النبي محمد كان والدًا لأولاد ذُكُور، لم يكبروا ويترعرعوا في كنفه، وعنايته، ولم يبلغوا سنَّ الرجال، فكلّهم ماتوا أطفالًا صغارًا، لذلك نفى الله – عزّ وجلَّ – عن النبي صفة الأُبُوَّة، ولم ينف عنه صفة الوالدية.

قال تعالى: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن } [الحج: 78].

وصفة الأُبُوَّة للنبي إبراهيم هي صفة ثقافية وتابعية، وليست والدية.

إذن؛ ليس كلّ ابن هو ولد، ولا كلّ ولد هو ابن؛ لاحتمال وجود إحدى الصفتَيْن، دون الأخرى؛ نحو أن يلد لوالد ولد، ويموت الوالد في أول عمر الولد، فلا يمارس الوالد عليه دور ووظيفة الأب، ويصير الطفل يتيمًا (فاقد الأب)، ويلتحق الولد بعمّه أخي أبيه، أو زوج أمّه، إنْ تزوَّجت، فيصير هذا الرجل الجديد أبًا للطفل اليتيم.

فوظيفة الوالد هي وظيفة فيزيولوجية (ولادية)؛ تُنجب الولد إلى الحياة.

ووظيفة الأب هي وظيفة اجتماعية (ثقافية)؛ تُهيِّئ الولد للعيش في الحياة.

وممكن أن تجتمع الصفتان (الوالد والأب) في رجل واحد، فيكون هذا الرجل والدًا لطفله، وأبًا في الوقت ذاته، (الإنجاب، والتربية).

وعندما يستخدم النصّ كلمة أولاد؛ فهو يحصر ذلك بعملية الولادة، نحو آيات الإرث، فجميعها استخدمت كلمة (أولاد)، وهذا يدلُّ على حصر الإرث في الأولاد فقط، دون الأبناء، لاحتمال أن يكون للإنسان أبناء ليسوا من صلب الآباء، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 23 فأحكام المواريث وحُرمة النكاح محصورة بالأبناء الذين من صُلب الآباء (أولاد)، أمَّا الأبناء الذين ليسوا من صلب الآباء؛ فلا ميراث لهم، ولا يحرم نكاح نسائهم، إنْ ماتوا، أو طلَّقوا زوجاتهم إلا في صور خاصة ذكرت في فصل محارم النكاح.

والنصُّ المَعْني بالدراسة قد استخدم كلمة (أبناء) بقوله: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، [الأحزاب: 4]. فالأطفال الذين ادَّعيتُم أُبُوَّتهم ليسوا – هم – أبناء لكم، فأنتم لم تُربُّوهم منذ صغرهم، ولم يستخدم المُشَرِّع كلمة (أولادكم)؛ لأن نَفْي عملية الولادة تحصيل حاصل، ولم يَدَّعوها أصلًا، بل ادَّعوا صفة الأُبُوَّة لهم، مع نَفْي عملية التربية لهم في الواقع، فكيف يكونون آباء لهم؟!

ويتابع النصُّ قوله: ( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ)، ولم يقلْ: (ادعوهم لوالديهم)، فمسألة الولادة والوالد ليست هي محلّ نقاش، أو خلاف، وإنما مسألة الأُبُوَّة والبُنُوَّة هي محلّ النقاش والنزاع، فالأب مَنْ قام بالتربية، وبالتالي؛ يصير الطفلُ ابنًا لهذا الأب، ولا يصحُّ أنْ يأتي رجل، ويدَّعي الأُبُوَّة لطفل وهو لم يمارس ذلك عليه، فهو مثله مثل مَنْ يسرق جهدَ وتعبَ غيره.

لذلك أمر المُشَرِّع أنْ يُدعى الطفلُ الربيبُ لمَنْ قام بتربيته، ولم يستخدم المُشَرِّع كلمة (نسب)؛ كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [الفرقان: 54 فلم يقلْ: انسبوهم لآبائهم؛ أيْ لا يصحُّ أنْ يقال: هم أولاد هذا الرجل، وهم ليسوا كذلك في الواقع، وإنما ادَّعوهم لآبائهم بقولكم: ابن فلان بالادّعاء، وليس بالنَّسَب، وبالتالي؛ لا ميراث لهم، ولا يَحرم نكاح نسائهم.

إذن؛ النصُّ ينهى عن ادِّعاء أبناء الغير أنَّهم أبناؤنا، وينبغي ادّعاؤهم لآبائهم الذين قاموا بتربيتهم، فإنْ لم يُعلَم آباءهم، فإخوانكم في الدِّين، وعملية الأُبُوَّة للأبناء مُستمرَّة إلى بدء سنِّ البلوغ، الذي هو سنُّ رَفْع صفة اليُتم عن الأولاد، قال تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً } [النساء: 6].

فالنص يتكلّم عن مسألتَيْن، وهما: البلوغ الجنسي، والبلوغ الرّشدي. فعندما يصل الطفل إلى البلوغ الجنسي ينبغي أن يُرافقه البلوغ الرُّشدي، وقد يتأخّر الرُّشْد عنده بسبب ثقافة المجتمع في إطالة عُمر الطفولة، فالمُشَرِّع ربط الأحكامَ الشرعية والمسؤولية ببلوغ سنِّ الرُّشْد الذي يأتي – غالبًا – مع البلوغ الجنسي، أو بعده، ولا يمكن أن يأتي قبله      (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) ؛ أيْ: دَعوهم يتحمَّلوا مسؤولية إدارة أموالهم، وبالتالي؛ يصحُّ بَيْعهم، وشراؤهم، وهبتهم، وأيُّ تصرُّف في مالهم، فهم أحرار فيما يملكون؛ لأنهم بلغوا سنَّ الرُّشْد.

ودلالة هذه النصوص تفيد أن الأب يمارس أُبُوَّته إلى سنِّ بلوغ الطفل مرحلة النكاح وسنّ الرُّشْد، وهذا يدلُّ على أن الأطفال هم أبناء لهذا الرجل، في تلك المرحلة التربوية، وهو مسؤول عنهم، وعن تصرُّفهم، وهذا يوصلنا إلى أن سنَّ ادّعاء البُنُوَّة ينتهي حَدُّه الأقصى عند بداية سنِّ البلوغ الجنسي والرُّشْدي، فإذا تفرَّقا يكون الحَدُّ الأقصى هو بداية سنِّ الرُّشْد، الذي يخضع في تحديده لمعايير ثقافية اجتماعية، تختلف من مجتمع إلى آخر.

وبالتالي؛ لا مانع من تبنِّي الأطفال في أيِّ سنٍّ كانوا، ما داموا تحت سنِّ الرُّشْد، ولكنْ؛ لا يصيرون أولادًا، وإنما يبقون أبناء، ومن ثمَّة؛ لا ميراث لهم، ولا يَحرم نكاح نسائهم، كما أخبر الرَّبُّ في كتابه بقوله تعالى (وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ)  [النساء: 23].

وهذا الوجه هو الذي أمر الله به نبيَّه أن يفعله، ويُبطله، في المجتمع الجاهلي، الزواج من زوجة الابن بالادّعاء، فأمره أنْ يتزوَّج زينب زوجة زيد بن حارثة، الذي كان يُطلَق عليه (زيد بن محمد) سابقًا، وأمر الله – عزّ وجلّ – أن تُرجَع بُنُوَّة زيد إلى أبيه حارثة؛ لأن النبي لم يكن – في واقع الحال – أبوه، غير أن الله – عزّ وجلّ – لم يرد لنبيّه أن يصير أبًا لأحد من الرجال؛ لاعتبارات إيمانية، وسياسية، ونَفْسية، تُؤثِّر على المجتمع الإسلامي، بعد وفاة النبي.

قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [الأحزاب: 37].

فعندما أراد زيد أن يُطلِّق زينب، كان عند النبي علْم من الله أنه سوف يأمره بالزواج منها؛ لإبطال حُكْم تحريم الزواج من زوجة الابن، الذي ليس من صُلب أبيه عمليًّا، وكان المجتمع العربي يُحرِّم ذلك، فخشي النبي من إثارة الرأي العامّ ضدَّه في هذه المسألة، وهو يعتقد بأنها مسألة صغيرة، ليس وقتها الآن، لوجود المسائل الأكبر منها، نحو صراع الإيمان والكُفْر، والتوحيد والشِّرْك، ناهيكَ عن أن المجتمع الإسلامي حديث عهد بالولادة{ Óy´øƒrBur وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ }، فكان النبي يأمر زيدًا بإمساكها؛ حتى يؤخّر هذا الزواج ما استطاع، ولكنَّ زيدًا طلَّقها { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا }.

فجاء الأمر الإلهي بتنفيذ الزواج من زينب؛ لإبطال حُكْم الجاهلية ( لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً)، فالقصة كلّها لإبطال حُكْم جاهلي، وتنفيذ لمضمون قوله تعالى: (وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ) فالتحريم محصور في نساء الأبناء من الأصلاب فقط. وخشيةً من أنْ يتخذ الناسُ زيدًا وريثًا لمحمد في مقام السلطة والإمامة، فقال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [الأحزاب: 40].

وهذا خاصّ بالنبي محمد، وليس نَفيًا للمؤمنين أنْ يكونوا آباء لأبناء من المجتمع، يقومون بالعناية بهم ثقافيًّا، وتربويًّا، ويحملون اسمهم بالتَّبنِّي، دون النَّسَب، ويحسبون حسابهم في الميراث وصيةً، وليس إرثًا، من باب التعاون والعمل الصالح.