هل أحاط العلم بكل شيء؟
رؤية نقدية للتحقق العلمي من الظواهر غير المتكررة
العلم منهج معرفي يقوم على الرصد والتجريب والاستنتاج، لكنه ليس كيانًا متجاوزًا للحدود البشرية، بل هو أداة لفهم الظواهر وفق الإمكانات المتاحة. ومن هنا يبرز التساؤل: هل يمكن للعلم أن يحيط بكل شيء؟ وهل عدم رصد ظاهرة معينة أو عدم تفسيرها يعني نفي وقوعها أو خروجها عن السنن الإلهية؟ هذا المقال يسعى إلى تحليل هذه القضايا من منظور علمي وفلسفي.
- هل العلم أحاط بكل شيء؟
العلم ليس مطلقًا ولا يمكنه الإحاطة بكل شيء في الكون، بل هو عملية مستمرة تتطور مع الزمن. فهناك ظواهر كثيرة لم تكن مفهومة في الماضي وصارت معروفة اليوم، وأخرى لم تُفسَّر بعد. فعلى سبيل المثال، موجات الجاذبية التي تنبأ بها أينشتاين عام 1916 لم يتم رصدها فعليًا إلا في 2015، وهذا يوضح أن عدم الرصد لا يعني النفي.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85
- هل عدم تكرار الظاهرة ينفي وجودها أو خضوعها لقانون؟
في الفيزياء والكونيات، هناك ظواهر فريدة تحدث مرة واحدة أو نادرًا جدًا، لكن ذلك لا يعني أنها غير واقعية أو أنها لا تخضع لقانون. مثال على ذلك، الانفجار العظيم، الذي حدث مرة واحدة لكنه أساس نظريات نشأة الكون. وكذلك بعض الظواهر الفلكية النادرة التي لم تُرصد إلا مرة واحدة، ومع ذلك يتم تفسيرها ضمن إطار القوانين العلمية.
- هل حصول الحدث في الواقع يكفي لإثباته؟
نعم، فحدوث أي ظاهرة في الواقع هو دليل على إمكانية حصولها، حتى لو عجز العلم عن تفسيرها أو لم يتمكن من إعادة إنتاجها تجريبيًا. فالكثير من الظواهر الطبيعية كانت تُعتبر “خارقة” قبل أن يجد العلم لها تفسيرًا، وهذا يوضح أن حدود المعرفة العلمية لا تعني نفي الوقائع، بل تعكس مستوى الفهم المتاح في لحظة زمنية معينة.
- السنن الإلهية والعلم الحديث
إلزام الله لنفسه بالسنن التي وضعها لا يعني أن الظواهر التي لم يتمكن العلم من تفسيرها أو التي تبدو غير اعتيادية هي بالضرورة خارجة عن هذه السنن والإلزام الإلهي لنفسه. وإنما العلم لم يصل بعد إلى فهمها. على سبيل المثال، ولادة المسيح عيسى بن مريم من غير والد هي ظاهرة ثابتة قرآنيًا، وهي ممكنة علميًا نظريًا حتى وإن لم يستطع العلم تفسيرها أو تكرارها. فعدم قدرة العلم حالياً على تفسير الظاهرة لا يعني خروجها عن السنن الكونية.
- تدبر آيات النبيين والظواهر فوق المستوى العلمي للبشر
عبر التاريخ، وردت في النصوص القرآنية أحداث ووقائع وقعت على يد الأنبياء كانت فوق مستوى الفهم العلمي لعصرهم، مثل تحول عصا النبي موسى إلى أفعى حية. هذا التحول لا يتناقض مع السنن الكونية، بل يمكن فهمه ضمن إطار فيزياء الكم (الكوانتوم)، حيث أن أصل الوجود كله ذو طبيعة كوانتومية، ما يعني أن التحكم بالمستويات الأساسية للواقع قد يسمح بتحولات تبدو غير مألوفة لنا. إذا كان التحكم بالكوانتوم ممكنًا، فمن حيث المبدأ، يمكن تحويل المادة إلى أي صورة أخرى من خلال تفكيكها وإرجاعها إلى عالم الكوانتوم، وهذا لا يعني أن الظاهرة تتناقض مع القوانين العلمية، بل أن مستوى التحكم المطلوب فيها ليس في متناول البشر العاديين.
- مفهوم الوحي وإمكانه العلمي والمنطقي
الوحي هو أحد المفاهيم الأساسية في النصوص الدينية، وهو يقوم على وجود جهة موحية (الله) وجهة متلقية (الأنبياء أو من يأذن الله له). لا يوجد أي مانع علمي أو منطقي من حصول هذا التواصل، إذ إن الفرضية الأساسية تعتمد على إمكانية استقبال الإنسان لمعلومات خارج النطاق الحسي المعتاد. ومثلما يتلقى الإنسان المعلومات عبر الحواس الطبيعية، يمكن تصوّر وجود مستوى آخر من الإدراك لم يدركه العلم بعد، لكنه لا يتعارض مع القوانين الكونية.
- كلام المسيح وهو رضيع: حالة خاصة من الوحي
من أمثلة الظواهر التي تبدو غير مألوفة، لكن لا تتناقض مع السنن الإلهية، كلام المسيح عيسى وهو طفل رضيع. هذه الحادثة يمكن فهمها ضمن إطار الوحي، حيث أن الله أجرى الوحي على لسانه، فتكلم بأمر الله وإذنه. لا يوجد أي مانع منطقي أو علمي لهذا الأمر، لأن الوحي لا يخضع لنفس القيود التي يخضع لها الكلام الطبيعي عند البشر، فالكلام عند الأطفال يحتاج إلى تطور عصبي وعضلي تدريجي، لكن الوحي تجاوز هذه المراحل الطبيعية بإذن الله، أي أن كلامه في المهد لم يكن ناتجًا عن التطور الطبيعي المعتاد، بل عن تمكين إلهي مباشر عبر الوحي.
هذا لا يعني أنه خرج عن السنن الإلهية، بل إنه وقع ضمن الإمكانات التي وضعها الله، حيث إن الوحي نفسه آلية ممكنة ومنطقية، ولا يوجد أي مانع علمي أو منطقي من حصوله، حتى لو لم يتمكن العلم من تفسيره حاليًا.
- هل كل أمر ممكن يلزم حصوله؟
من الضروري التمييز بين الإمكانية النظرية والوقوع الفعلي. ليس كل ما هو ممكن نظريًا يجب أن يتحقق في الواقع. فمثلًا، من الممكن حسابيًا أن تتشكل جزيئات معينة في بيئة معينة، لكن ذلك لا يعني أنها ستتشكل حتميًا. وهذا ينطبق أيضًا على الظواهر الطبيعية والكونية.
خلاصة
العلم لم يحط بكل شيء، وعدم رصد ظاهرة أو تفسيرها لا يعني نفيها. كما أن حصول الحدث في الواقع هو برهان كافٍ على إمكانيته، حتى لو لم يتكرر أو لم يخضع للتجريب العلمي. وبالتالي، لا يمكن اعتبار أي ظاهرة غير مفسرة حاليًا خارجة عن السنن الإلهية، بل قد يكون العلم لم يصل بعد إلى أدوات فهمها. تدبر الظواهر التي وردت في النصوص الدينية، مثل تحول عصا موسى إلى أفعى، يفتح المجال لفهم أعمق لحدود العلم وإمكانات الواقع الكوانتومي، مما يشير إلى أن الكون يحوي آليات غير مكتشفة بعد يمكن أن تؤدي إلى تحولات جوهرية في المادة والطاقة. كذلك، مفهوم الوحي والتواصل الإلهي لا يتعارض مع أي مبدأ علمي، بل يمكن اعتباره من الإمكانات غير المكتشفة علميًا بعد، ويندرج ضمن السنن التي لا تتناقض مع قوانين الكون.
اضف تعليقا