النفوس والأَنفس في القرآن: دقة التعبير بين الجمع الفردي والجمع الباطني

من يقرأ النص القرآني بتمعّن يدرك أن اختيار الألفاظ ليس اعتباطيًا، بل لكل حرف وصيغة دور دقيق في بناء المعنى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما نجده في الجذر ن ف س الذي يُستعمل في صيغة الجمع على وجهين مختلفين: “أَنفُس” و”نُفوس”. قد يبدو اللفظان متقاربين، لكن التدبر يكشف عن فارق عميق يرتبط بالبنية الصوتية والدلالة النصية معًا.

الجذر: من الستر إلى الامتداد الحر

الجذر ن ف س يتكون من ثلاث حركات صوتية أساسية:

  • النون: ستر وإخفاء.
  • الفاء: فتح وانفراج.
  • السين: حركة حرة ممتدة.

بهذا تتشكل صورة “النفس” ككيان باطني مستور، ينفتح إلى الخارج، ثم يمتد بحرية في استمراره. النفس إذن هي الباطن الحي الذي يتحرك من الخفاء نحو الامتداد.

“النُّفوس”: الداخل الجمعي المشترك

قال تعالى:
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء 25).

الحديث هنا عن دواخل الناس، عن النوايا المستترة التي لا يطلع عليها أحد غير الله. لذلك جاء اللفظ بصيغة “نُفوس”.
وجود الواو في هذه الصيغة (فعول) يضيف معنى الامتداد المنضم، أي أن النفوس ليست كيانات منفصلة، بل هي دواخل باطنية يشترك فيها البشر في طبيعتها، رغم اختلافهم أفرادًا. فالخطاب موجّه إلى الداخل الجمعي الكامن، لا إلى الأفراد المميزين.

“الأَنفُس”: الكيانات الفردية المستقلة

وقال تعالى:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا…} (الزمر 42).

السياق هنا يتحدث عن الموت والنوم، أي عن مصير كل فرد بذاته. لذلك جاء اللفظ بصيغة “أَنفُس” على وزن أفعل. إدخال الهمزة في الجمع يبرز التعيين والفصل، ويجعل النفس كيانًا مميزًا مستقلاً. فالله يتوفى كل نفس على حدة، يميّز بين التي تموت والتي تُعاد إلى أجل مسمّى.

الفارق الدلالي بين الصيغتين

  • النُّفوس: تبرز الداخل الجمعي المشترك، أي ما يستتر في الباطن ويشمل الكل.
  • الأَنفُس: تبرز الأفراد ككيانات مستقلة، لكل واحد مصيره وتقديره الخاص.

خاتمة

الفارق بين “النُّفوس” و”الأَنفُس” ليس شكليًا، بل هو جزء من الدقة القرآنية التي تستثمر أبسط التحولات الصوتية لصياغة المعنى. الواو في “نُفوس” تُشير إلى الامتداد الجمعي المنضم، بينما الهمزة في “أَنفُس” تُبرز التعيين والاستقلال الفردي. هكذا يكشف النص أن النفس في جوهرها باطن حر ممتد، لكنه يُقرأ أحيانًا كجزء من الداخل الجمعي، وأحيانًا أخرى ككيان فردي مستقل.