الفتوى الشورى الحوار الجدال والسؤال: أسس الفهم وبناء القرار

 

إن فهم عالم الأفكار يبدأ من إدراكنا للوظيفة البنّاءة لكل مفهوم، فالمصطلحات هي أدوات العقل التي يستخدمها لبناء تصوراته واتخاذ قراراته. وفي محاضرتنا اليوم، سنقوم برحلة تأسيسية لمعاني خمسة من هذه الأدوات المحورية: الفتوى، والشورى، والحوار، والجدال، والسؤال، لنرى الدور الإيجابي الذي يؤديه كل منها في منظومتنا المعرفية والاجتماعية.

إذا اختلف المبنى اختلف المعنى

الفتوى: تجسيد الحكم ومصدر اليقين العملي

الفتوى هي إجابة حاسمة تهدف إلى تحويل حالة التردد والغموض إلى يقين عملي واضح. إنها الجسر الذي ينقل المسألة من حيز النظر والتساؤل إلى حيز التطبيق والفعل المحدد. تكمن قيمة الفتوى وقوتها في طبيعتها الإلزامية للمستفتي، فهي تقدم له مساراً محدداً يتحمل المفتي مسؤوليته.

  • في مقام الدين: تظهر الفتوى كوسيلة لتنزيل الحكم الإلهي على وقائع الحياة العملية للناس. إنها تختص بـالأحكام، أي بتنظيم أفعال المكلفين، ولذلك كان مصدرها حصراً هو الله جل وعلا، فهو وحده من يشرّع لعباده. ويتجلى ذلك في كتاب الله حين يأمر نبيه ﷺ بأن ينسب الفتوى لصاحبها الأصلي:

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النساء: 127) {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (النساء: 176) فالفتوى هنا هي بيان للحكم الإلهي العملي في قضايا الميراث والأسرة، ليعرف الناس كيف يتصرفون.

  • في مقام الدنيا: تؤدي الفتوى وظيفة مشابهة، حيث تكون تجسيداً لخبرة أهل الاختصاص في قرار ملزم. فعندما طلبت ملكة سبأ الفتوى من ملئها، كانت تطلب منهم تحويل آرائهم المتعددة إلى خطة عمل موحدة للدولة.

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل: 32) لقد أرادت قراراً استراتيجياً واحداً تلتزم به، لا مجرد استعراض للآراء.

السؤال: مفتاح المعرفة وبوابة التدبر

السؤال هو المحرك الأول للمعرفة والسبيل إلى توسيع مدارك العقل. وظيفته هي فتح الأبواب المغلقة أمام الفهم، واستكشاف أبعاد القضايا، وتحفيز النفس على التأمل والتدبر. إنه الأداة التي تبني القناعات على أساس من الوضوح والمعرفة، وتدعو العقل ليشارك في الوصول إلى الحقيقة. تأملوا كيف أن الإجابات على الأسئلة في القرآن الكريم تقدم مادة للتفكير:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: 219) الإجابة هنا هي دعوة للعقل ليوازن ويستنتج، وليبني قراره على فهم عميق للأمور، لا على مجرد الامتثال.

الحوار: فضاء الفهم المتبادل وتلاقح الأفكار

الحوار هو عملية تواصل راقية تقوم على مبدأ التبادل والأخذ والعطاء، بهدف بناء جسور من الفهم المشترك. إنه فضاء آمن تتلاقى فيه الأفكار وتتضح فيه الرؤى، وتتسع فيه زاوية النظر لكل طرف من خلال استماعه للآخر. الغاية الأسمى للحوار هي الوصول إلى فهم أعمق وأشمل، كما في تساؤل نبي الله زكريا الذي كان طلباً للفهم والاستيضاح:

{قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عمران: 40)

{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً }الكهف34

 

الجدال: أداة البيان وإقامة الحجة

الجدال في صورته المثلى هو فن عرض الحجة بالبرهان والدليل. وظيفته البناءة هي إظهار الحق وتثبيته في مواجهة الباطل أو الشبهة. إنه أداة ضرورية لتجلية الحقائق والدفاع عنها، شريطة أن يكون مسلحاً بالعلم ومقيداً بالحكمة والأسلوب الحسن.

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) هذا هو الجدال المحمود الذي يبني ويوضح. أما حين يتجرد من العلم، فإنه يفقد وظيفته ويتحول إلى مجرد خلاف: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الحج: 3)

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }المجادلة1

الشورى: آلية بناء القرار الجماعي وتوحيد الإرادة

الشورى هي أرقى أشكال العمل الجماعي المنظم، وهي التقنية الاجتماعية التي تحوّل الآراء الفردية المتعددة إلى إرادة جماعية واحدة وقوية. إنها عملية مؤسسية تبدأ بعرض الآراء، وتمر بتداولها ونقاشها، لتصل في نهايتها إلى قرار موحد يحمل قوة المجموعة بأكملها، ويلتزم به الجميع. إنها المنهج الذي وصف الله به أهل الإيمان في إدارة شأنهم العام:

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى: 38) فالشورى هنا هي أساس إدارة “الأمر”، مما يؤكد أن نتيجتها هي قرار نافذ يوحّد الصف ويحقق المصلحة المشتركة.

خاتمة: تكامل الأدوار لبناء مجتمع راشد

وهكذا نرى، أيها الكرام، أن لكل مفهوم من هذه المفاهيم وظيفته البنّاءة ودوره الحيوي. فالمجتمع الراشد هو الذي يُحسن استخدام هذه الأدوات، فيعرف متى يسأل للمعرفة، ومتى يحاور للفهم، ومتى يستفتي للفعل، ومتى يتشاور للقرار. وبتوظيف كل أداة في مقامها الصحيح، تتكامل الأدوار وتتحقق المصلحة، ويبنى صرح الفهم والقرار على أسس متينة.