دراسة كلمات قرآنية
الكتاب، التوراة، الزبور، الإنجيل، القرآن، الحكمة، والذكر
يقوم هذا البحث على بناء الدلالة من داخل الاستعمال القرآني، وإسنادها بتحقيق جذري وصوتي يقرأ الحروف في مخارجها وصفاتها ودلالتها الإشارية، ثم صوغ مفهومٍ لسانيّ كليّ لكل لفظ، يلي ذلك بيان طريق المعنى كما يتكوّن في السياق والاقتران والتعلّق النصي، مع نفي مقولة : إن القرآن يحتوي على كلمات أعجمية ، فهو نزل بلسان عربي مبين، وإثبات قاعدة: إذا اختلف المبنى اختلف المعنى.
الكتاب: من الجذر كتب وهي غير خطَّ، وتظهر دلالة الحروف على النسق الآتي: كافٌ لاحتكاكٍ خفيف يهيّئ انتقال المعلومة من حال التشتت إلى مسارٍ منتظم، وتاءٌ لبدء الدفع والانطلاق، وباءٌ لضمٍّ وجمعٍ مستقرّ يغلّق الوحدة ويثبّت البناء، فتتشكّل من تآزرها هيئةُ جمعٍ منظَّم للمعلومات والمعارف والوصايا.
المفهوم اللساني الكلي للكتاب هو كونه عملية الجمع المنهجي التي تنشئ بطبيعتها إمكان الحفظ والتوثيق، سواء تحقّق جمعاً قلبياً أو تجسّد في مخطوط، فيغدو الكتاب وعاءً معرفياً ممكِّناً للتعليم والتشريع والحكمة.
ويأتي معنى الكتاب عبر السياق حين يقترن بالتعليم والحكم والبيّنات، فتُرى وظيفته إطاراً حاضناً للمعرفة الموجِّهة التي يُستنار بها في الفهم والعمل، ويُستدل على حدّه ومرتبته من علاقته بما يجاوره من ألفاظ الهداية.
التوراة: من الجذر ت- و- ر، وفي دلالة الحروف تاءُ بدء الدفع الإرشادي، وواوُ مدٍّ منضمّ يشير إلى امتداد الأثر في الناس زمناً ومكاناً، وراءُ تكرارٍ وجريانٍ يضمن استمرار الفاعلية، فتنتظم البنية في صورة كتاب هداية تقويمية ممتدة.
المفهوم اللساني الكلي للتوراة أنها منهاج موجِّه يرسم بالوصايا والحدود معايير العدل ويشدّ سلوك الجماعة إلى الاستقامة عبر التاريخ، فتتميّز بوظيفتها التقويمية الجامعة.
ويأتي معناها سياقياً كلما اقترن ذكرها بالحكم والبيّنات وضبط المسار العام، فيظهر أثرها معياراً يُرجع إليه عند الاختلال، وتتحدّد مرتبتها ضمن شبكة الألفاظ بما تؤديه من تسديدٍ تشريعيٍّ عملي.
الزبور: من الجذر ز- ب- ر، وتُظهر الحروف زاي ظهور مستمر ، وباءً للضم والجمع المستقر، وراءً للجريان الذي يصون انتظام البيان، فتدلّ الزبر على الإحكام والتقييد والتنظيم المنهجي للمكتوب، وهي جنس المدونات المحكمة للأوامر والبيّنات.
والزبور كتابٌ مخصوص لداود على نسق فعول الدال على المزبور المكتوب، يغلب فيه التسبيح والحِكَم والترتيل، فيغذّي الوعي التذكيري والتهذيب الوجداني ويتكامل مع الكتاب والتوراة من غير تكرار لوظيفتهما التقويمية العامة.
ويأتي الفرق عبر السياق بتوزيع العمل: عموم الإحكام والتنظيم في الزبر، وخصوص المقام الذِّكريّ الحكميّ في الزبور مع اتصال الوظيفة بالتوجيه الروحي والمعرفي.
الإنجيل: يتحدّد مركز دلالته بالبشارة والخلاص، وتقوم مادته على الجذر( ن-ج- و) لا (ن-ج- ل)، حيث تدلّ النون على الستر والاحتواء، والجيم على الجهد والقوة، والواو على المدّ المنضم واتساع الأثر، فتنعقد صورةُ منهج نجاة يقود الإنسان من الضلال والخطر إلى الأمن والاهتداء.
المفهوم اللساني الكلي للإنجيل أنه كتاب بشارة وخلاص يقدم سبل النجاة منهجاً عملياً وروحياً، وتُقرأ صورته أيضاً بوصفه تركيباً من عنصر النجاة «نجا/نجو» ومقطع «إيل» في نسق الأعلام المعروفة مثل جبريل وإسرائيل وإسماعيل، فيؤول إلى «النجاة بالله/إلى الله»، أي إن نهايته العملية «النجاة بالله» بمعنى التمسك بما أنزل الله من هدى.
ويأتي المعنى من خلال السياق حين يقترن الإنجيل بالبشارة والرحمة والهدى، فتتجسّد وظيفته في إخراج الإنسان إلى سبل السلام بتحويل المنهج إلى عمل، وبذلك يظهر اتساق الجذر والتركيب مع المآل العملي للكتاب.
القرآن: من الجذر ق- ر- أ،(قرأ وهي غير تلى) وتتآزر الحروف على تصوير فعل الجمع القرائيّ المنتج للفهم، (قافٌ) للتوقف تستحضر المعنى من العمق، و(راءٌ) لجريان وتكرار يُنمّي الدلالة في مجرى اللسان والفكر، و(همزةٌ ) تحقق وتثبيت تُغلق الحصيلة، فتقوم البنية على نصّ مقروء بطبعه.
المفهوم اللساني الكلي للقرآن أنه تلقيٌ قرائيٌّ واعٍ يُثمر التدبر والإدراك ويُنتج منهج هداية نافذاً، وتنعقد دلالته السياقية كلما اقترن بالتبيين والتدبر والبلاغ، فتظهر شخصيته النصية في توليد الوعي والعمل.
ويتبدّى الفرق الوظيفي مع التلاوة من جهة كونها متابعةً متسلسلة للأداء، بينما القراءة فعل إدراكيّ جامع، فيأخذ القرآن حدّه من نسبته إلى القراءة بما تُحدثه من وعي وتفعيل.
الحكمة: من الجذر ح- ك- م، وتدلّ الحاء على سعة ورحابة منضبطة، والكاف على ضغط واحتكاك ، والميم على الضم والجمع المتصل، فتقوم هيئةُ المِلكة الراسخة التي تضع الشيء موضعه وتصل العلم بالفعل.
المفهوم اللساني الكلي للحكمة أنها قوةُ تنزيلٍ راشد تحرس اعتدال العلاقة بين القاعدة والواقعة وتسدّد القرار العملي، ويأتي معناها من خلال السياق حين تقترن بالتعليم والتزكية وإصلاح الانحراف التطبيقي.
وبهذا التأليف الصوتي-الجذري تتضح مرتبتها رافعةً دلالية تحفظ توازن نسق الهداية وتمنع الغلوّ والتقصير.
الذكر: من الجذر ذ- ك- ر، وتنبّه الذال لدفع ملتصق، وتثبت الكافُ الانضباط، وتجري الراءُ بالديمومة، فتنعقد دلالته على استحضار المعنى وإحياء حضوره في الوعي الفردي والجماعي.
المفهوم اللساني الكلي للذكر أنه آليةُ استدامة تبقي خطاب الهداية على ملكة الحضور والفاعلية، ويجيء معناه من السياق حين يقترن بالتنبيه والإنذار والبشارة فيحفظ أثر الرسالة متجدداً في الضمير والعمل.
وبهذا يتصل الذكر بما جُمع في الكتاب، وما قُرِئ من القرآن أو تلاوته فهو نزل بصيغة صوتية ولذلك اسمه الذكر، وما قُوِّم في التوراة، وما غذّاه الزبور من تسبيحٍ وحِكَم، فيتكامل النسق من غير تطابق بالمعنى.
خاتمة
ينشأ البناء الدلالي لهذه الألفاظ من تساند الجذر بالبنية الصوتية ومن عمل اللفظ في السياق، فيتعيّن الكتاب وعاءَ الجمع المنظَّم، والتوراة منهاجاً تقويمياً ممتداً، والزبر جنسَ الإحكام التقييدي، والزبور كتاباً مخصوصاً يغذّي الذكر والحكمة، والإنجيل كتابَ بشارة وخلاص قائمٍ على حقل «نجو» ومُفَسَّراً تركيبياً إلى «النجاة بالله»، والقرآن نصّاً مقروءاً تُستنفر معه ملكات الإدراك والتدبر، والحكمة ملكةَ التطبيق الراشد، والذكر آليةَ الاستدامة، فتأخذ المصطلحات حدودها ووظائفها ومراتبها في نسق واحد متماسك بلسان عربي مبين.



اضف تعليقا