دلالة النفي والضلال الفكري

يعيش الإنسان في عالم ذو أربعة أبعاد، ويفكر فيه وبه، ولايمكن للإنسان أن يتصور أي أمر خارج هذا العالم الرباعي الأبعاد بخلاف التعقل فهو ضمن إمكانية الإنسان وهو حكم يتعلق بالوجود وليس بالتصور، ولذلك نقول: الواقع هو أساس التفكير وموضعه بوقت واحد، والتفكير هو ظاهرة اجتماعية وليست فردية، مما يعني أن المجتمع هو الذي أوجد التفكير عند أفراده، وهو الذي يصيغ شخصيتهم ويوجهها، والتفكير لايمكن أن يظهر أو يعمل إلا بنظام لساني يكون حاملًا له، وهذا يعني أنه لاتفكير دون لسان يحمله أو يعمل به، ليصير اللسان ظاهرة اجتماعية أيضًا، فالمجتمع هو الحاضن لكل من التفكير واللسان، والواقع هو الحقل الميداني الذي يحكم الجميع.
وبما أن الواقع هو الأصل والأساس صار لاتفكير إلا بواقع، وانعكس الواقع بقوانينه على التفكير واللسان وحَكَمَهُما، وظهر قوانين المنطق ومبادئه وظهر نظام النحو في اللسان منسجمين مع بعض موافقين للواقع، فالقانون الواقعي صار قانونًا منطقيًا وتم صياغة الكلام على موجب هذا القانون ومحكوم به، فمثلًا، الواقع يقوم على قانون (لابد لكل فعل من فاعل)، وهذا القانون ثابت لايتخلف أبدًا، فصار قانونًا منطقيًّا أو مبدأً ثابتًا، و ضبط صيغة الكلام من حيث أن كل جملة فعلية لابد لها من فاعل ضرورة سواء ظاهرًا في الجملة أو ضميرًا أو مُقدَّرًا، وصار الفاعل هو محور الجملة الفعلية وأساسها، مثل : قرأَ زيدٌ الكتابَ، ولو زال الفاعل (زيد) لزالت الجملة وتلاشت، فوجود الفاعل واجب لقيام الجملة وصحتها، وحتى لو غاب ذكر (زيد) من الجملة (قُرِأ الكتابُ) فالفاعل موجود حُكمًا في الواقع ويُقَدَّر ذهنيًا، ويستحيل على العقل افتراض نفي وجود الفاعل كليًّا، وعندما افترض الملحد نفي وجود خالق أول صمدي أزلي انتحر فكريًّا لأنه نقض مبدأ واقعي منطقي لساني يقوم عليه الكون كله، والملحد ذاته يعتمد عليه في أمور معيشته ودراسته وعمله، ولايوجد أي عالم أو فيلسوف مهما كان موقفه من الدين نفيًا أو إثباتًا ينفي قانون السببية في الواقع، وخاصة بدراسته العلمية أي كان اختصاصه! لأن نفي قانون السببية ينفي دراسة العالم ولم يعد لها قيمة ولايستطيع أن يستمر بها.
والملحد الذي يثبت قانون السببية في الواقع ومن ثم يدَّعي: باحتمالية استمراره إلى ما قبل أن يصير الواقع شيئًا ولايجد مانعًا من ذلك؛ يكون تجاوز بكلامه الوجود الشيئي وصار يتكلم عن اللاشيء لأن قبل أن يوجد الواقع لم يكن شيئًا يتعلق به الفعل، والأفعال كلها ضمن دائرة الواقع ولابد للفعل من نقطة بداية ضرورة وهو مقتضى دلالة كلمة الفعل، ولثبوت بطلان فرضية الدور والتسلسل، وبالتالي ينتهي صلاحية قانون السببية عند أول فعل حدث بعد أن لم يكن شيئًا، وكان الوجود للفاعل الأزلي الذي لاينطبق عليه قانون السببية ضرورة لتغايره في الوجود، ومن يسحب قانون السببية على الفاعل الأزلي يكون قد قام بالانتحار الفكري، وصار مثله كمثل من يعيش في عالم ثنائي الأبعاد ويحاول أن يطبق رؤيته وقوانينه على عالم رباعي الأبعاد، وقصدت تطبيق قانون السببية على مفهوم الأزلية الذي هو اللانهاية، ويستحيل على ذو التفكير الرباعي الأبعاد أن يتصور اللانهاية، والحري به كمفكر أن يكتفي بقدرته ومايستطيعه على التعقل فقط المرتبط بالشيء ويقف عن محاولة التصور للوجود قبل أن يصير شيئًا لفشل كل محاولاته، وعجزه عن تصور اللانهاية هو إدراك لقصوره وضعفه ومحدوديته، فيصير نفي إدراكه واستحالته هو من مقومات الإيمان بالخالق المدبر الواحد القهار؛ لأنه وصل إلى تلك المرحلة عن طريق الواقع والمنطق، وصار إثبات وجود الخالق المدبر موقف منطقي واقعي ، ونفيه موقف لامنطقي ولاعقلاني.
لندرس أسلوب النفي في الكلام مثل: زيد ليس في البيت، نلاحظ من تحليل عناصر الجملة أن مفرداتها تتعلق بالواقع، فزيد موجود، وكذلك البيت موجود، ووجودهما موضوعي خارج الذهن، وهذا يعني أن النفي يتعلق بشيء موجود خارج الذهن يتناوله بنفي عنه حكم معين أو وصف.
ونلاحظ أن النفي يكون لشيء ثابت مسبقًا أو يمكن حصوله، فزيد كان في البيت أو يمكن أن يكون في البيت، فأتت جملة النفي تنفي وجوده في البيت، وبهذا المثل نصل إلى أن النفي يتعلق بالشيء الموجود مسبقًا أو يمكن وجوده، مما يدل على أن الثبوت هو الأصل في الواقع، وأسلوب النفي عارض ويتعلق بقصور علمي عند الإنسان لأنه لو كان يعلم كل شيء على حقيقته لما احتاج إلى أسلوب النفي وسمى الأمور بمسمياتها وأخبر عنها كما هي في الواقع، مثلًا لانحتاج لنفي عن زيد أنه جبانًا أو نفي عن السماء لون الأخضر ونقول مباشرة زيد شجاع والسماء زرقاء، وكل من يسمعه يوافق على ذلك لموافقة كلامنا لمقتضى الحال في الواقع، ولكن الواقع أن الإنسان قاصر في علمه ومحدود القدرات ولذلك ظهر أسلوب النفي ليغطي عجزه وقلة معلوماته ويدفعه إلى البحث والدراسة، ورغم ذلك العجز وقلة المعلومات فإن النفي مرتبط بالشيء الثابت، وهو مرحلة لاحقة له.
فالإثبات والنفي يتعلقان بالشيء، ولايصح تعلقهما بلا شيء، بمعنى لايصح إثبات اللاشيء أو نفيه، لأن اللاشيء لاشيء وليس هو بمحل تعلق شيء به لاعلمًا ولاجهلًا ولا إثباتًا ولانفيًا.
ماذا يعني هذا الكلام ؟
يعني هذا الكلام أن الإنسان لايمكن له نفي اللاشيء، وعندما ينفي يكون نفيه يتعلق بشيء معين سواء أكان له وجود موضوعي خارج الذهن، مثل: ليس للحصان أجنحة، أو له وجود ذهني مركب من الأشياء، مثل : الغول وحش لايتكلم، نلاحظ أن عناصر الجملتين هي أشياء موجودة في الواقع وهو نفى عنها تركيبتها بصورة معينة يعني النفي تعلق بالحكم على الشيء ولاعلاقة له بالتصور له، فالحصان كائن موجود واقعي، وكذلك الأجنحة موجودة للطيور، والغول وحش يتصوره الإنسان بصورة قبيحة ومخيفة له يصنعها من واقعه وفعل الكلام موجود، وهذا يدل على أن النفي لايتجاوز الموجود ومرتبط بالشيء ضرورة سواء أكان الشيء موضوعيًا أو ذهنياً متخيلاً، ولايستطيع الإنسان أن ينفي اللاشيء كما أنه لايستطيع أن يثبت اللاشيء، والحكم في ذلك كله هو للواقع فهو يصنف هذه الجملة صواب في حكمها أو خطأ.
لنر جملة : لا إله إلا الله
جملة خبرية منفية، والنفي لايكون إلا من خلال ثبوت عناصر الجملة في الواقع، وإلا صار الكلام عبثًا لاقيمة له ولاداعي لنفيه لأنه لاشيء.
عناصر الجملة الثابتة في الواقع وفي منطق الناس هي مقام الألوهية وهو يقوم على مقام الخالق المدبر، الثابت من جراء قانون لابد لكل فعل من فاعل، وبطلان فرضية الدور والتسلسل، وافتراض تعدد الآلهة في ذهن الناس كتصور ضال موجود، وحصر هذا المقام بإله واحد الذي هو الله المعلوم عند الناس أنه خالق السموات والأرض.
وهذا يعني مجرد أن تنف الألوهية (لا إله) يدل على ثبوت مقام الألوهية عند النافي ولكن ينف ذلك المقام عن جهة ما أو جهات، ولايصح نفي المقام ذاته من الواقع لأن النفي يلزمه تعلق بشيء يكون محل النفي، ونصف الكلام لاجواب له، ولابد من كلام يعقبها لإثبات الألوهية في جهة أخرى هي الحقيقية وحصرها بذلك فأتت كلمة (إلا الله) لتكمل الجملة وتغلقها ويتم المعنى.
وهذا يدل على أن الملحد الذي ينف وجود الإله هو شخص سار خطوة واحدة ووقف في نصف الطريق وصمت عن الكلام، ولم يتم المعنى عنده ولاعند السامع، وهو يحتاج لإكمال كلامه وسيره في الطريق والوصول إلى جملة (إلا الله) لينسجم عنده الكلام مع المنطق ومع الواقع، ولكن اختار الملحد أن ينتحر فكريًّا.