مفهوم كلمة الإِبِل في القرءان

كتب صديقي الدكتور ” محمد عناد سليمان” فكرة عن مفهوم نص {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }الغاشية17
وذكر فيه أن دلالة كلمة (الإِبِل) في النص هذا هو السحاب، فاعترض عليه أحدهم بقوله: إن دلالة كلمة (الإِبِل) معروفة أنها الحيوان المعروف ، فمن أين أتيت بدلالة أن كلمة (الإِبِل) تعني السحاب؟!
فرد الدكتور عليه بقوله:
[إن كنتَ تقصد المعنى الشائع فهو صحيح، أما إن كنتَ تقصد المعنى اللساني للفظة فليس كذلك؛ لأن الألف والباء واللام تدلُّ على الجماعة والتتابع، وهو من الجموع التي لا مفرد لها من لفظها، وقد استخدمتها العرب للدلالة على القطيع المجموع ذكورًا وإناثًا، وقد نبَّه على ذلك الخليل بن أحمد في العين عندما بيِّن معنى (أبابيل).
وقد ذكر غير واحدٍ ومنهم شيخنا االمبرِّد أنَّ معنى (الإبل) في الآية: السَّحاب؛ ونقله جمع من المفسّرين كالقرطبي في أحكامه، وعلَّلها الزمخشري نقلًا في كشَّافه، وقد أحسن التَّعليل، وابن عطية في محرره، وغيرهم؛ لذلك قرأها شيخنا الكسائي وأبو عمرو بتشديد اللام ليلائم معناه، ممَّا يقوِّي ما أميل إليهل] انتهى.
مازال كثير من القراء والمثقفين وربما الباحثين يعتمدون في دراستهم للنص القرءاني على ماهو شائع ومشهور ومتعارف عليه بين الناس، ويعدونه أصلًا و قاعدة للانطلاق في فهم القرءان، ويتعاملون معه وكأنه أمر مُسلَّم به وهو الصواب ، ولايُكلفون أنفسهم قبل نقضه أن يرجعوا ويتأكدوا من القواميس لعلها ذكرت الدلالة الأخرى!
ينبغي أن نعلم أن القرءان لم ينزل بثقافة المجتمع الأول ولم يتقيد بمعانيهم التاريخية، وإنما نزل بلسان عربي مبين، وهذا يعني أن الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم لساني واحد مجرد، ويستخدمها المتكلم بمعنى ثقافي محدد ومحكوم بالمفهوم التجريدي، وهذا يقتضي فهم دلالة الكلمة وفق السياق والمنظومة التي ينتمي إليها موضوع الكلام، قد يكون المعنى القاموسي الثقافي مقصود في النص وقد يكون غير مقصود ويتناول معنى آخر، وقد يكون معنى واحد، وقد يتعدد المعنى وفق صياغة النص وتعلقه مع محله من الواقع.
لننظر ما هو مفهوم كلمة (إبِل)
القاموس المحيط
الإِبِل: بكسرتين، ويمكن أن تُسَكَّن الباء، مفرد ، واحد يقع على الجمع، ليس بجمع، ولااسم جمع.
جمعها: آبال، وتصغيرها أُبَيْلة، والسحاب الذي يحمل ماء المطر.
ويقال: إِبلان: للقطيعين.
وتأبَّل إبِلًا: اتخذها.
وأبَلَ، كضرب: كثُرت إبِلُه.
كأبَّل وآبَل،غلَبَ، وامتَنَعَ.
فهم العرب سابقًا دلالة كلمة الإِبِل) أنها تدل على الجمع والقطيع، وتحقق ذلك بجمع السحاب على بعضه، وتحقق بجمع الحيوان المعروف باسم (الجمل) فأطلقوا على السحاب كلمة الإبل، وأطلقوا على جمع الجمال والقطيع منه كلمة (الإبل)، وهذا يعني أن العرب كانت تستخدم قاعدة ثبوت مفهوم الكلمة لسانًا وتحرك المعنى في سليقتهم بشكل فطري، وانتشار معنى بين الناس دون الآخر لاينفي صحة الأول لسانياً ومنطقياً، كما أن المعنى الذي شاع في زمن نزول النص القرءاني لايعني أنه المقصود أو هو حصراً وينبغي على المجتمعات اللاحقة التقيد به ونبذ المعاني الأخرى كلها، لأن النص القرءاني نزل بلسان عربي مبين للناس جميعاً ،وليس بثقافة المجتمع الزمكانية القومية، و مع التدوين وفشو الجهل باللسان العربي ، وخاصة مع تغير طبيعة الحياة والمعيشة، ومع طول الزمن ظن الناس أن المعنى الشائع هو الأصل؛ بل لايوجد غيره! واستخدموه في دراسة القرءان، وخرجوا بنتائج عجيبة وغريبة وسطحية، لذلك لايصح إشهار مقولة: من قال بقولك، أو لماذا لم يقل الصحابة بذلك، وهل يعقل أن الناس جميعًا على خطأ، هذه مقولات شيطانية عبثية، الحجة بالدراسة والبرهان وليس بالأكثرية والآبائية، وهذه مقولة فرعون عندما واجه بها النبي موسى بقصد التشويش عليه أمام الملأ :{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى }طه51؟ وقصد بها الآباء والسلف والأكثرية الذين اتبعوهم، لماذا لم يقولوا بقولك؟ رد النبي موسى عليه ردًّا حاسمًا جازمًا مانعًا: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى }طه52، هذه نقطة مهمة جداً للباحث والدارس للقرءان، عليه أن يدخل وقلبه سليم وحر التفكير ويتعامل مع النص القرءاني وفق منهجه اللساني العربي المبين.
وعود على بدء
كلمة (إِبل) ترجع في أصلها إلى جذر( أَبَلَ)
أَ: صوت الألف الصغير المفتوح (الهمزة) يدل على حركة بجهد صغير وإثارة ممتدة زمنيًا ومكانيًا مقطوعة بخفة.
ب: صوت الباء يدل على حركة جمع مستقر
ل: صوت اللام يدل على حركة لازمة ثقيلة.
مفهوم كلمة (أبَلَ) التجريدي حسب مفهوم دلالة أصواتها مجتمعة ومرتبة على شكلها (أَبَل)هو:
حركة أو جهد صغير مثار ممتد زمكانيًا مقطوع بخفة ليشكل تجمع مستقر يتحرك بثقل لازم له.
وهذا المفهوم اللساني الثابت ظهر في السحاب المحمل بماء المطر ويتحرك بثقل وخفة كتجمع قطيعي، وظهر بالحيوان المعروف (الجمل) من كونه يتحرك بجهد ممتد زمكانيًا بحمولة مستقرة ومجتمعة على ظهره لازمة ثقيلة، وتحقق هذا المعنى بالفرد منه وبالقطيع.
وترجع كل معاني كلمة (أَبَلَ) المختلفة ومشتقاتها إلى هذا المفهوم الذي يحكمها كلها .
وعود لدراسة دلالة كلمة (الإبِل) في سورة الغاشية، وينبغي دراسة السياق الذي أتى النص فيه لنستخدمه قرينة في تحديد معنى كلمة (الإِبِل).
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }{وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ }{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ }{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }الغاشية17- 20
نلاحظ أن النصوص كلها تتكلم عن ظواهر طبيعية كونية، وهذا السياق يوجه دلالة كلمة (الإِبِل) إلى معنى السحاب، وهو أقرب منطقيًّا ولسانيًّا من معنى الحيوان، ومع ذلك فنوعية هذه النصوص تحتمل التشابه بالمعنى وتقبل التعدد والرؤى واختلاف التنوع، بمعنى يمكن أن يحتمل النص عدة معاني وكلها صواب طالما يحتملها المفهوم اللساني ويقبلها السياق والمنطق والواقع ، وكل باحث يتعامل مع المعنى الذي يرى أنه صواب أو أقرب لروح النص ومقصده، ويظهر معنى للكلمة أولى من معنى آخر حسب السياق والموضوع العام، ولاعلاقة للمعنى المشهور والشائع بين الناس في الدراسة وما ينبغي أن ينطلق منه الباحث أو يعتمد عليه، بل يدخل للقرءان بقلب سليم ويتدبر نصوصه وفق نظام اللسان العربي المبين الذي نزل القرءان به االمنزه عن المجاز والحشو واللغو والعبث والسطحية وما يُسمى الترادف خطأ الذي هو تطابق المعنى لكلمتين مختلفتين بالمبنى.
وينبغي أخذ العلم أن الكلمة ذاتها يمكن أن يستخدمها القرءان بمعنى آخر في سياق مختلف ولكن محكومة بالمفهوم اللساني:نحو:
{وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }الأنعام144
نلاحظ من السياق العام للنص، ومحل تعلقه من الواقع، وذكر كلمة البقر، أن معنى كلمة (الإِبِل) هو الحيوان المعروف وليس السحاب!.
والقاعدة اللسانية القرءانية المنطقية هي:
الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم واحد ثابت، وتظهر بمعاني مختلفة حسب قصد المتكلم واستخدامه لها وفق سياق معين محكومة بالمفهوم اللساني.
وهذه القاعدة توصلنا إلى أن القرءان يمكن أن يستخدم الكلمة الواحدة بعدة معاني مختلفة حسب السياق ومحل تعلقها من الواقع ولكنها محكومة بالمفهوم اللساني لاتتجاوزه، ولذلك ما ينبغي أن نعمم معنى كلمة أتت في نص قرءاني على كل النصوص وأينما أتت الكلمة، فهذا عمل غوغائي اعتباطي وإسقاط للسياق، وإهمال محل تعلق الخطاب.