إشارة قرآنية إلى طبيعة السماء والطاقة الكونية:

قراءة لسانية-كونية في ضوء “ذات الحبك” و”الرق المنشور”

✦ مقدمة

يشهد علم الكونيات المعاصر تحوّلاً جذريًا في فهم بنية الكون، خصوصًا مع اكتشاف “الطاقة المظلمة” (Dark Energy)، التي تُشكّل قرابة 68% من محتوى الكون المرصود. وهي طاقة غير مرئية، تملأ نسيج الزمكان وتُعتبر المحرّك الخفي وراء تمدّد الكون المتسارع.
في المقابل، يُقدّم النص القرآني وصفًا متنوعًا للسماء، تتضمّن ألفاظًا مثل “الحبك” و”الرق المنشور”، وهي مفردات ذات طاقة دلالية عالية، مما يفتح المجال أمام قراءة جديدة تستأنس بالاكتشافات الفيزيائية المعاصرة، دون إخضاع النص لها أو ليّ عنقه.

تهدف هذه الدراسة إلى اختبار مدى إمكان تأويل هذين اللفظين في ضوء المفاهيم الحديثة للطاقة المظلمة وبنية الزمكان، من خلال قراءة لسانية-بلاغية مقترنة بإطار علمي مستأنس.

✦ المنهجية والإطار النظري

تعتمد الدراسة على منهج تكاملي من شقين:

  1. تحليل لساني للمفردات: يتناول الجذر والمعنى الصرفي والدلالي والسياقي للكلمات “الحبك” و”الرق”، اعتمادًا على المعاجم الأصلية (كـ لسان العرب ومقاييس اللغة) مع مراعاة السياق البلاغي للنص القرآني.
  2. تحليل مقارن مع المفاهيم الفيزيائية الحديثة: تُعرض فيه مفاهيم كنسيج الزمكان، والطاقة المظلمة، والتمدد الكوني، لمعرفة إمكان حصول توازٍ دلالي أو تصويري بينها وبين المفردات القرآنية.

ينطلق البحث من مبدأ “الاستئناس” لا “المطابقة”، أي استخدام المعرفة العلمية الحديثة بوصفها وسيلة لإثراء التدبر القرآني، لا فرض تفسيرات علمية على النص.

✦ الإطار الفيزيائي المعاصر: الكون والطاقة المظلمة

أثبتت أرصاد الفلك في أواخر القرن العشرين، خاصة من خلال المستعرات العظمى، أن الكون لا يتمدد فحسب، بل يتسارع في تمدّده. ولفهم هذا التسارع، افترض الفيزيائيون وجود “طاقة مظلمة”، تنتشر في أرجاء الزمكان، ذات ضغط سالب يدفع الكون إلى الاتساع المستمر.

هذا المفهوم، رغم كونه غير قابل للرصد المباشر، يُعَدّ اليوم من دعائم علم الكون، ويُنظر إليه كعنصر بنيوي في “نسيج” الزمكان. ومن اللافت أن القرآن الكريم أشار إلى هذا الاتساع في قوله:
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: 47)

✦ التحليل اللساني والدلالي للآيات

1. “وَالسَّمَاءَ ذَاتِ الْحُبُكِ” (الذاريات: 7)

  • لسانيًّا: الجذر “ح ب ك” يشير إلى الشدّ والإحكام والنسج المتقن. الحُبُك هي طرائق متناسقة محكمة، سواء في النسج أو في شكل الأمواج أو التكوينات.
  • علميًّا: تتناغم هذه الدلالة مع مفهوم “نسيج الزمكان” (Fabric of Spacetime)، الذي يُصور الكون كبنية مرنة مترابطة، تنتقل فيها التموجات والجاذبية. كما أن “الشبكة الكونية” (Cosmic Web) التي توزّع فيها المجرات والمادة، تشبه شبكة من “الحبك” الممتدة.

2. “وَالرَّقِّ الْمَنشُورِ” (الطور: 3)

  • لسانيًّا: “الرَّق” هو الجلد الرقيق الذي يُكتب عليه، و”المنشور” هو المبسوط الممتد. الكلمة ترتبط بمفهوم الاتساع والانكشاف مقابل الطي والإخفاء.
  • علميًّا: إذا فُهم “الرق” كرمز لنسيج الزمكان، فإن “نشره” يصف حالة التمدد والانبساط المستمر التي تفرضها الطاقة المظلمة. كما أن اقتران “الرق المنشور” بـ “الكتاب المسطور” يوحي ببنية مكتوبة أو محكومة بقوانين دقيقة، مثل الثوابت الفيزيائية الكونية.

✦ توليف دلالي: من النص إلى النموذج الكوني

عند جمع الآيات الثلاث (الذاريات: 47، الذاريات: 7، الطور: 3)، يمكننا تصور نموذج قرآني لبنية الكون يتمحور حول:

  1. التمدد الكوني المستمر – “لموسعون”.
  2. نسيج كوني متقن ومتداخل – “ذات الحبك”.
  3. امتداد حامِل لقوانين – “الرق المنشور”.

وإذا كانت الطاقة المظلمة هي القوة التي تفسّر هذا التمدد، وتضبط سلوك نسيج الزمكان، فإنها تصير المفهوم الذي يربط بين هذه الإشارات الثلاث بطريقة غير تصريحية، لكنها تفتح بابًا للتأمل والتفكير.

✦ خاتمة

لا يُمكن القطع بأن القرآن تحدث عن “الطاقة المظلمة” بمصطلحاتها الحديثة، لكنه استخدم أوصافًا ذات دلالة عميقة، تتناغم من حيث التصوير والبنية مع المفاهيم الكونية الجديدة.

إنّ الجمع بين “الحبك”، و”الرق المنشور”، و”لموسعون”، يُنتج نسقًا تصويريًا مدهشًا، يصوّر السماء كبنية منسوجة وممدودة وتحكمها قوانين مكتوبة، تمامًا كما تُصوّرها الفيزياء الحديثة.

وهذا ما يجعل القرآن، في بعده البياني، ليس فقط نصًا هاديًا للإيمان، بل أيضًا مصدرًا غنيًا للاستلهام الكوني والتأمل العلمي.