محاضرة في مفهوم الحرية في القرءان
بسم الله وبه نستعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر القائمين على إدارة مركز الفيصل الثقافي لدعوتهم لي للمشاركة في هذا الافتتاح، وأرجو أن أكون عند حُسن ظنهم، وظنكم، وأقدِّم ما هو مفيد، لتأخذ مشاركتي محلها من الرؤى الثقافية التي يعرضها المركز خلال مسيرته المباركة.
الجنس الإنساني ما زال إلى الآن يُعاني من الاضطهاد والاستعباد ويئن تحت رُكام من الظلم والاستبداد، فيحاول بهذه الصرخات المكتومة أن يُوصل إلى الفراعنة والهامانات أنِّي فيَّ رَمق من الحياة، ومازلت أتنفس تحت الحُطام، ومازال بي بَقيَّة من الحركة في بعض الأعضاء لم أستسلم للموت، ولم أيأس من النجاة، أريد الحياة، أريد أن أخرجَ من تحت رُكام التخلفِ والانحطاطِ، أريد أن أتنفسَ هواء الحريةِ، أريد أن أكسرَ قيودي وأتحركَ في ساحةِ بلادي، أنظُر لإخواني على مختلف توجهاتهم ورؤاهم، وأبتسمُ في وجوههم، وأبدأَهُم بالسلام عليكم يا أحبابي، السلام عليكم يا معشر الناس.
عَجباً لماذا هم عابسون؟
لماذا ينظرون إلي شذَراً؟
لماذا لم يردوا السلام؟
ماذا حصل في الديار؟ مَن حرق البيادر وقطع الأشجار؟ مَن غرس شجرةَ الكراهية في قلوب الناس؟ مَن يسقي هذه الشجرة بالسم الزُعاف؟ إنها تحمل ثماراً كرؤوس الشياطين!.
عجباً؛ مازال الإنسان يُفسد في الأرض ويَسفِك الدماء!؟ لماذا يمتلئُ قلبُ الإنسانِ حُقداً وكراهية على أخيه الإنسان؟ حتى إن ذلك صار كأنَّه يجري في مجرى الدم عنده، بل إنَّه صار من بُنية عناصر الدم، ودخل في جيناته!.
لماذا نُوَرِّث الحقدَ والكراهية للأبناء في جيناتهم الثقافية، فيكْبُرون عليها، ويحقدون، ولا يعرفون لماذا يحقدون؟ لماذا تحقدُ أيها الإنسان على أخيكَ الإنسان؟ سوف نسمعُ أحدَ الأجوبة يترددُ صَداها: إنَّ الأبَ الخامس عشر بعد المائة لهذا الإنسان قتل جَدّي الثالث عشر حينئذ!. وأنا أريدُ أن أثأرَ له.
لماذا الآباء يَضْرُسون الحصرمَ ، والأبناءُ يتناولونَه.
لماذا الأجيال اللاحقة تعيش في الماضي السحيق؟
لماذا الأجيال الحالية تُوقف عجلةَ الحياةِ وتُرَجِّع دورانها بعكس الاتجاه؟
أسئلةٌ كثيرة، وآهاتٌ مريرة!!.
آن الأوان؛ إلى أن تقفَ أيها الإنسان {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }الصافات24، وتحاسبَ نفسك، وتعيدَ ترتيب أوراقك الثقافية وأوْلوِّياتها، وتنطلقَ من محور الواجب، وتطالبَ بحقوقك، وتصيرَ فاعلاً ؛ لا منفعلاً{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء36، لن يشفعَ لك الآباءُ، ولن يفيدَك الأكثرية، ولم يكن، ولن يكن الآباءُ أو الأكثريةُ أو قِدَمُ الزمانِ برهانٌ على صواب فكرة أو أحقِّيَّتها، ورحم اللهُ الإمامَ عَليٍّ كرَّم اللهُ وجهَه عندما قال قولتَه المشهورة، التي صارت قاعدةً ثقافية: ويحك إن الحقَّ لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرَفُ الرجالُ بالحقِّ، اعرف الحق؛ تعرفُ أهله. والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبّع، ولو لم يكن معك أحدٌ، لأنَّ الحقَّ قوي بذاته.
أيها السادة الكرام
مفهومُ الحريةِ؛ مسألة حاول جَمهرة من الفلاسفة التشكيكُ بها، فنتجَ عن ذلك ردَّةُ فعلٍ لآخرين يحاولون إثباتها، فزاد الأمرُ تعقيداً وإشكالاً.
إنَّ كلمة (الحرية) من كلمةِ (حَر) صوت الحاء يدل على أرجحة شديدة مُنضبطة، وصوت الراء يدل على تكرار، وجمع الصوتين بهذا الترتيب (حر) يدل على أرجحةٍ شديدة بين أمرين، أو أكثر مع تكرار تلك العملية دون توقف. وظهر هذا المفهوم لدلالة كلمةِ (حر) في حركة الإنسان الواعي من حيث امتلاكه صفة الإرادة والاختيار بصورة لازمة لا تتوقف أبداً، فهو ينتقل من أمر إلى آخر حسب ما يشاء ويرغب.
فالجسم له حاجات عضوية ينبغي إشباعها، التي هي الهواء، والطعام، والشراب، والنوم، وطرح الفضلات، وكذلك للنفس حاجات نفسية ينبغي إشباعها، وعدم إشباعها يؤدي إلى هلاك النفس، وهذه الحاجات هي الحرية والكرامة، فعندما تُصادَر حرية الإنسان، أو تُهدَر كرامته يُصاب بحالة اكتئاب وحزن شديد تودي به إلى موت نفسي, فالحرية شعور نفسي بالحياة، لذا؛ الحرية تساوي الحياة، بل يضحي الإنسان بحياته الجسمية مقابل الحفاظ على حريته، لأن الحياة الحقيقية هي للنفس الواعية الحرة، والمعيشة للجسم.
وصدق مَن قال: انهض بنفسك واستكمل فضائلها……….فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وصدق مَن قال: الجسم فرس، والنفس فارس، ومعاً يصلان إلى خط النهاية.
ولذلك لم يتم ذكر الحرية في القرآن لفظاً أو إشارة، لأنه ليس من أسلوب القرآن ذكر ما هو تحصيل حاصل، فلا داعي لأن تُذَكِّر الإنسان أنه بحاجة إلى أن يتنفس رغم ضرورة ذلك، ولو فعلت؛ لوضعت نَفسك في محل السخرية، وكان خطابُك عبثاً وحَشواً لا قيمة له، لأن الحرية حاجة نفسية، وإشباعها ضرورة فطرية، وعدم إشباعها يؤدي إلى الهلاك أو الموت النفسي، والقرآن كله خطاب متعلق بالحرية، ونزل يخاطب إنساناً عاقلاً مُكرَّماً يملك حرية الاختيار، فالخطاب التكليفي للإنسان برهان على حريته، ولولا ذلك لما نزل القرآن، ولم يتوجه في خطابه له، هل يُعقل أن يُخاطبَ القرآنُ إنساناً مقيداً بالسلاسل ويأمره وينهاه !؟
وهذا العرض يتناول أيضاً مَن يقول :إن القرآن لم يُحَرِّم الرق ( استعباد الإنسان) ولم يذكر ذلك في خطابه. وفاته أن الإنسانَ يُولدُ حُراً كريماً، وقد سجَّل التاريخ لنا مقولة عظيمة لأمير المؤمنين الفاروق عندما قال لعمرو بن العاص مستنكراً فعل ابنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.وبالتالي لا قيمة علمية لمن يُشهر مقولة: إن القرآن لم يتطرق إلى مفهوم الحرية، أولم يذكر كلمة الحرية رغم أهميتها الشديدة؛ وسواء صدر القول منه بسوء نية أم بحسنها، فهو على الحالتين يُظهرُ جهلُه بأسلوب القرآن، ويُغفلُ الجانب الفطري في الإنسان، ويتعامل مع الخطاب القرآني كتعامله مع خطاب الناس لبعضهم بعضا.فمسألة استعباد الناس كمسألة أكل لحم الإنسان ، هل يقول عاقل :إن القرآن لم يُحرم أكل لحم الإنسان!؟ لعدم وجود نص يذكره!! ويُشهر قاعدة ( الأصل في الأشياء الإباحة إلا النص)، بينما نرى أن القرآن استخدم نفور الإنسان وكراهيته فطرة وثقافة لأكل لحم الإنسان مثلاً لقبح أن يغتاب الإنسانُ أخيه فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12، والأقوام الذين يأكلون لحوم البشر هم قوم فسدت فطرتهم، وهبطوا ثقافياً، ونكَصوا إلى مرحلة الهَمجية البشرية، وبالتالي ينتفي عنهم صفة الإنسان، ولا يُلتفت إلى غياب تلك المفاهيم من الفقه التاريخي الذي وضعه فقهاء السلطة متأثرين بالأحداث الزمنية الراهنة حينئذ، لأن ذلك لا يُمثل القرآن،وبالتالي ينبغي التفريق بين الشرع الإسلامي الممثل بالقرآن فقط، والفقه الإسلامي الذي هو فهم بشري زمكاني، ونحن ملزمون بالشرع لا بالفقه .
– ومن هذا الوجه أيضاً يَظهرُ خطأ قول بعض الفلاسفة الذين أنكروا أو شككوا بحرية الإنسان، و طالبوا بالبرهان عليها، فمثلهم كمثل من يُناقش مسألة حاجة الإنسان العضوية للهواء والماء، ويُطالب بالبرهان عليها!.
– وكذلك مسالة الأخلاق وموقف بعض الفلاسفة منها والتشكيك بأصالتها، فالأخلاق منظومة مرتبطة بمفهوم حرية الإنسان بصفته كائن اجتماعي ضرورة، فالإنسان كائن ثقافي اجتماعي حر أخلاقي.
فهذه الحاجات النفسية، والحاجات العضوية هما حاجات ذاتية للإنسان على صعيد النفس و الجسم تنبع من داخله، وتتطلب الإشباع الخارجي.
ولقد أحسن قولاً من قال: أنا أفكر؛ إذن أنا موجود. ويمكن أن نستبدلها بمقولة: أنا حر، إذن أنا موجود. ولا يتغير المفهوم، لأن التفكير ثمرة للحرية، والحرية أساس للتفكير، فقولك: أنا أفكر. يتضمن قولك أنك حر، وإن قلتَ: أنا حر. يلزم منه قُدرَتك على التفكير، فالإنسان الحر هو القادر على التفكير والعطاء والإبداع، والإنسان المُستَعبد كَلٌّ على الآخرين، وعبء، ولا يُنتظر منه نهضة أو رُقي، وكذلك الشعوب المستَعبدة، هي شعوب مُتخلفة لا يمكن أن تنهض ما لم تُمارس حريتَها التي تدفعها إلى التفكير والعطاء، والحوار والاختلاف في الرؤى، فالشعوب الحرة، شعوب متقدمة ناهضة، والشعوب المتقدمة الناهضة هي شعوب حرة.
والحرية طريق أساسي للنهضة والتقدم والإبداع، وممارسة مقام الخلافة في الأرض وعمارتها بما ينفع الناس والبلاد.
فلا إكراه في الدين، ولا دين في الإكراه، وهما على طرفي نقيض لا يجتمعان أبداً، وقرَّر الله هذه الحقيقة بقوله:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256، وبقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً }الكهف29، ولم يعط أحد من الخلق كائن من كان حق حساب الآخرين على تصوراتهم وقناعتهم فقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ{21} لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ{22} إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ{23} فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ{24} إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ{25} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ{26} الغاشية
وحرية الإنسان مفهوم ثقافي ذو بُعدين:
الأول: بُعد فردي متمثلٌ بالحريات الأربعة: حرية الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية السلوك الشخصي، وحرية الامتلاك.
الثاني: بُعد اجتماعي يتعلق بحركة الإنسان في المجتمع وَفق معيار الآداب العامة، والعرف والنفع والضرر.
فالإنسان الذي يعيش وحيداً على قمة جبل تكون مساحة حرِّيَّتِه كبيرة جداً، إذ يستطيع أن يصرخ بأعلى صوته، ويمشي عارياً، ويقذف الحجارة إلى أي جهة يريد، بينما إنسان المجتمع لا يستطيع ذلك، فدائرة حريته تضيق وتنضبط لتفسح مجالاً لحق دوائر الآخرين في الوجود، فالإنسان الاجتماعي لا يعيش وحده، وإنما يعيش ضمن علاقات متشابكة بالغة التعقيد مع الآخرين، والتمرد الفردي الأعمى على نظام المعرفة، قد يقود إلى نفي القيم والمعارف المعمول بها بصورة مدمرة.
لذا؛ قيل: إن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وهذه الضوابط الثقافية للحرية هي ضوابط اجتماعية يخضع الإنسان لها طوعاً أو كَرهاً ليستطيع ممارسة حريته الفعَّالة، لأن عدم خضوع الإنسان لهذه الضوابط تدفع الآخرين إلى اختراق دائرة حريته وإلحاق الأذى به، إذاً؛ الانضباط الثقافي الاجتماعي هو قانون يضمن ممارسة الحرية الشخصية بجانب حرية الآخرين دون اختراق أو أذى لأحد أو عدوان.
فالحرية مسؤولية وانضباط والتزام، والمسؤولية قائمة في أساسها على الحرية. فالحر مسؤول، والمسؤول حر، وإذا غابت الحرية انتفت المسؤولية، وإذا انتفت المسؤولية عن كائن ما فهو على واحد من ثلاثة أوجه:
الأول: لا يُسأل عن أمر لاتصافه بالعلم والعدل والحكمة بصورة مطلقة، وبالتالي لا يصدر منه إلا خير وحق وصواب، سواء عَقِل الناس مقاصد ومآل العمل أم لا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الأنبياء23، وهذا الوجه غير متحقق إلا بالله الخالق المدبر ويكون هذا المقام مقام الملك والرب الأعلى.
الثاني: فاقد الحرية والإرادة، فلا يُقدم على فعل شيء من تلقاء نفسه، وإنما يتلقى الأوامر من غيره، مثل الملائكة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم(6)، ومثل الناس الذين صاروا مُلك يمين لغيرهم (تابع اجتماعي واقتصادي من غير الصلات الأسرية) فهم من مقهوري الإرادة نسبياً.
الثالث: الكائنات الحية البهيمية، لا تُسأل عما تفعل لأنها فاقدة العقل والحرية.
والإنسان ليس واحداً من الأوجه الثلاثة، وإنما هو كائن عاقل حر ذو إرادة واعية، وصفات محدودة مكتسبة متنامية ينتمي إلى مجتمع في حياته، وبالتالي مسؤول عن أعماله كائناً مَن كان هذا الإنسان، ومهما كان منصبه أو مقامه في المجتمع، وهذا هو مقام الخلافة في الأرض.
والإنسان الذي ينفي عن نفسه المسؤولية، هو إنسان ينفي عن نفسه العقل والحرية، ولكم أن تتصوروا رؤساء أو ملوكاً لبعض الشعوب العربية، يزعمون أنهم فوق المُساءلة الشعبية والقانونية، فكيف يكون هؤلاء دون مسؤولية ويحكمون الشعوب؟ وبمعنى آخر كيف يكون هؤلاء دون عقل وحرية، ومع ذلك يحكمون الشعوب، التي تدّعي العقل والحرية؟ إنها معادلة باطلة، جنون واستعباد يحكمان عقلاً وحرية!؟
الجنون والاستعباد لا يَنبُتان إلا في تُربة الجهل والانغلاق الفكري، فإذا أردنا أن نستأصل الجنون والاستعباد، ينبغي أن نحرثَ التُربةَ بمحراث الفكر، ونزرعَ الوعي والثقافة السلمية الإيجابية، فينبتَ العقلُ والحريةُ، ويصيران ظاهرة اجتماعية ينبثق منها قيادة راشدة للشعوب العاقلة الحرة.
وحرية الإنسان بشقيه ( ذكر وأنثى ) تظهر بصور أربع:
الأولى: حرية الفكر.
الثانية: حرية الرأي.
الثالثة: حرية الملكية.
الرابعة: حرية الشخصية.
وهذه الصور الأربع للحرية، منضبطة بثقافة المجتمع وَفق مفاهيمه عن الإنسان والكون والحياة، وما قبل الحياة وما بعد الحياة، وعلاقة هذه المفاهيم ببعضها، وبناء على كل ذلك يُشكل الإنسان قاعدة إيمانية يبني عليها نظام حياته، ويمارس حريته بموجبها، ويكون إنساناً فاعلاً يقوم بواجبه ويسأل عن حقوقه ويطالب بها، من باب قم بواجبك واحصل على حقك، ويظهر إنسانُ الواجب الفاعل، ويتقلص إنسانُ الحقوق المنفعل، ونتيجة اختلاف وجهات النظر لجواب القاعدة الفكرية (كيف ، و لماذا، وأين) ظهر ثلاث مبادئ على أرض الواقع وهم: المبدأ الإسلامي، والمبدأ الرأسمالي، والمبدأ الشيوعي، وتعاملوا مع الحريات الأربعة كل حسب قاعدته الفكرية.
– المبدأ الإسلامي قال: إن الإنسانَ كائنٌ اجتماعيٌ حر منضبط بثقافة الإسلام، وثقافة المجتمع، والدولة نظام للعناية بالمجتمع والفرد جزء منه.
– المبدأ الرأسمالي قال: إن الإنسانَ كائنٌ فرديٌّ حر يجري وراء إشباع شهواته، والدولة لحماية حرياته ولو على حساب الآخرين.
– المبدأ الشيوعي قال: إن الإنسانَ كائنٌ ابن الدولة فقط، والدولة نظام يرعى أفراده كرعايته للماشية.
الحرية لا تمارس إلاّ مُنضبطة بنظام ثقافي، وتتوسع دائرة الحرية كلما ازداد الإنسان ثقافة ووعياً، والعكس صواب، والذي يُوسِّع دائرة الحرية هو العلم والوعي، ومن هذا الوجه ظهرت العلاقة الجدلية بين الحرية والعلم.
فالرب عندما قال: إني جاعل في الأرض خليفة يقصد إني جاعل كائناً حُرّاًً في الأرض متمثلاً بمجتمع، وبالتالي فهو مسؤول، وهذا يقتضي وجود نظام كلي يُنظم ممارسة حرية هذا الإنسان بعلاقته مع المجتمع، وما ينبغي لهذا النظام أن يكون عينياً وذَرِّياً لأنه ينفي الحرية عن الإنسان ويمنعه من التطور، وإنما ينبغي أن يكون حدودياً وخطوطاً عامة، ويقوم على المقاصد لا على الأشكال، كما أنه ينبغي أن ينسجم مع غرائز الإنسان وحاجاته النفسية والجسمية.
إذاً، الإنسان كائن حر فطرة، كما أنه كائن اجتماعي ضرورة، ولا وجود لظاهرة الإنسان الفرد منعزلاً عن مجتمعه، لذا؛ ينبغي عند دراسة حرية الإنسان عدم استبعاد ظاهرة المجتمع، ومن هذا الوجه يصير لحركة الإنسان محورين متلازمين مع بعضهما لا ينفي أحدهما الآخر.
أحدهما فطري: الذي يقوم على الإرادة والاختيار والحرية والكرامة. والآخر اجتماعي: يقوم على الانتماء والانضباط بنظام المجتمع، وينبغي على الإنسان أن يتوازن بحركته وَفق المحورين، وما ينبغي على المجتمع أن ينفي ظاهرة الوجود الإنساني الفطري لأن الوجود الحقيقي إنما هو للإنسان، بينما المجتمع وجوده اعتباري وثقافي وضرورة لاستمرار الجنس الإنساني وممارسة مقام الخلافة لأن عمر المجتمع أطول من عمر الفرد، ومن هذا الوجه ظهرت العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. والعلاقة بينهما ليست علاقة السن بالمسنن كما في المبدأ الشيوعي، حيث يصير الفرد جزءاً لازماً ثابتاً في المجتمع مقهور بحركته العامة ترعاه الدولة، وإنما العلاقة بينهما علاقة اللاعب مع فريقه، فنجاح الفريق نجاح للجميع، وخسارة الفريق خسارة للجميع، ولو كان الفرد حيوياً في نفسه وحقق شيء من التميز الفردي، ولكن لا يؤثر على الفريق ككل. وهذا يدفعنا إلى أهمية إيجاد النظرة الاجتماعية عند الفرد حيث يصير كل واحد منهم يَعُدُّ نفسه مسؤولاً عن نجاح المجتمع، ويبذل جهده لتحقيق ذلك، والمجتمع الناهض يحمل في داخله الأفراد الذين قصَّروا، أما الأفراد الناجحون المنفردون لا يستطيعون أن يحملوا المجتمع، ومَثلُ ذلك كمَثل مجموعة يركبون في سفينة في البحر، فالمحافظة على سلامة السفينة وأدائها؛ نجاة للجميع، وهذا ينبغي أن يكون هدفهم. لا علاقة للمجتمع بحركة الفرد الخاصة في معيشته، طالما أنه يملك الشعور بالانتماء الاجتماعي، وحريص على سلامته ونهضته، وبالتالي تكون دولته دولة العناية لا دولة الرعاية.
لذا؛ الحذر من قهر الجانب الفطري في الإنسان لأن ذلك يَسلب من هذا المقهور مبرر الانتماء للمجتمع، وبالتالي لا يبالي إن غرقت السفينة أم لم تغرق؛ بل يمكن أن ينقلبَ ضد المجتمع ويحاول أن يهدمه، وهذا ما نراه الآن من أعمال تخريبية وإرهابية يقوم بها أبناء المجتمع جهلاً منهم بخطورة ما يفعلون!.
وشكراً لحسن إصغائكم
سامر إسلامبولي
السودان – مركز الفيصل الثقافي
اضف تعليقا