عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا
(تعليم وليس تلقينًا وحفظًا)
يُعدّ نصّ التعليم والعرض من أكثر النصوص القرآنية عمقًا في بيان العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الوعي والموجودات، وبين العقل والسنن. فالنصّ لا يتحدث عن حدثٍ تاريخي مغلق، بل عن بنيةٍ دائمةٍ في تكوين النفس الإنسانية، وهي القدرة على التعلم والاكتشاف من خلال التفاعل المباشر مع الموجودات.
إنّ لفظ التعليم في النصّ القرآني لا يمكن اختزاله في التلقين أو نقل المعرفة جاهزة، لأن التعليم فعل يتطلب مشاركة فاعلة من المتعلم. فقول الرب ﴿وعلّم آدم الأسماء كلها﴾ لا يعني إملاء قائمة من الأسماء، بل تمكين النفس الإنسانية من آلية الإدراك والفهم وربط المسمّى بالمدلول، أي اكتساب الوعي بذات الأشياء.
الغاية من هذا البحث هي إعادة قراءة النصّ قراءةً سننية ولسانية، تكشف عن استمرارية التعليم والعرض والسجود في البنية الإنسانية، وتفكّك التصورات التراثية التي اختزلت القصة في مشهد زمني جامد، وتحجب بذلك بعدها العلمي والفلسفي.
أولًا: في دلالة التعليم
الفعل (علّم) في البنية القرآنية يتضمّن بالضرورة وجود طرفين فاعلين: المعلِّم والمتعلّم. غير أن النصّ هنا لا يصف نقل معلومة بل تفعيل قدرة. فالمتعلم (آدم) اكتسب قابلية تسمية الأشياء بعد إدراك خصائصها، لا مجرد سماع أسمائها.
فلو كان المقصود هو الحفظ اللفظي، لكانت الملائكة قادرة على التكرار اللفظي ذاته، لكنها لم تكن لتملك الإدراك الذي يجعل من الاسم وعيًا بالمسمّى. لذلك جاء التعبير القرآني لاحقًا: ﴿قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا﴾، أي لا قدرة لنا على التعلّم الذاتي خارج التمكين الرباني الممنوح للإنسان.
إذن، التعليم هنا هو تفعيل لآلية الإدراك والتسمية، وهو ما يميز النفس الإنسانية عن سائر الكائنات. فالرب لم يلقّن الإنسان أسماءً، بل فعّل فيه قدرة الوعي بالعلاقات بين الموجودات، وهو ما يشكل جوهر العلم.
ثانيًا: في دلالة (عرضهم) وضمير الجمع
الآية تقول: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾، ولم تقل “عرضها”، رغم أن المتحدّث عنه قبلها هو “الأسماء”.
التحليل اللِّساني والمنطقي يبيّن أن الضمير (هم) لا يمكن أن يعود على “الأسماء” لأنها غير عاقلة وغير محسوسة بذاتها. فالعرض في اللغة يفيد إظهار الشيء المحسوس المشاهد أمام ناظر. ولو كانت الأسماء المقصودة مجرد ألفاظ، لما صحّ أن يقال عنها (عرضهم)، لأن الضمير العاقل يشير إلى كينونات أو موجودات لها تمثّل أو فاعلية.
إذن، الضمير (هم) يشير إلى المسمَّيات، لا إلى الأسماء ذاتها. أي أن الرب عرض الموجودات التي أُدركت وسُمّيت، لا الكلمات الدالة عليها. فالحدث هنا ليس عرضًا لغويًا، بل عرض كونيّ لموضوعات المعرفة. وهذا ما يفسّر استخدام اسم الإشارة (هؤلاء) الذي يُستعمل في القرآن دائمًا للإشارة إلى حضورٍ مشهودٍ عاقل أو فاعل. فقول الرب: ﴿فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء﴾ يعني أنه عرض أمامهم الموجودات الواعية القابلة للوعي، مما يجعل فعل “الأنباء” مرتبطًا بالفعل المعرفي لا بالتكرار اللفظي.
ثالثًا: في دلالة الاستمرارية
من الناحية المنطقية والسننية، لا يمكن حصر هذا التعليم والعرض في لحظة زمنية منقضية، لأن بنية النص القرآني لا تشير إلى حدثٍ منغلق بل إلى نظام دائم في النفس الإنسانية.
فالاسم في القرآن ليس مجرد علامة لسانية، بل هو هوية سننية لكل موجود في الكون. وبهذا، فإن تعليم الأسماء هو تمكين الإنسان من فهم نظام الأشياء في الكون وتسميتها بما يناسب وظيفتها.
وهذا الفعل مستمر بقدر استمرار الوجود الإنساني؛ فكلما اكتشف الإنسان قانونًا أو علاقةً أو مادةً جديدة فقد تعلّم من جديد اسمًا من الأسماء التي علّمها الرب للإنسان في أصل خلقته.
ومن ثمّ، فإن “آدم” في النصّ لا يُفهم بوصفه شخصًا بيولوجيًا وحيدًا، بل رمزًا للجنس الإنساني في لحظة وعيه الأولى. وهذا الفهم يجعل التعليم فعلًا مستمرًا، والعرض عملية متجددة، والسجود تفاعلًا دائمًا بين قوى الوعي الإنساني والسنن الكونية.
رابعًا: السجود كخضوع علميّ تسخيريّ
بعد العرض، ورد السجود. والسجود في هذا السياق لا يحمل دلالة العبادة، بل هو خضوع سننيّ لقانون التفوق المعرفي الذي أودعه الرب في الإنسان.
فكلّ من في الكون – من الملائكة والقوى العاملة في نظام الوجود – يخضع لهذا التفوق ما دام الإنسان متعلّمًا باحثًا مكتشفًا. أما حين يتوقف الإنسان عن التعلم والاكتشاف، فإنه يفقد هذا الموقع السننيّ، فيرتدّ عليه النظام الكوني بالانقياد السلبي لا الفاعل.
من هنا نفهم أن سجود الملائكة ليس حدثًا ماضويًا، بل قانونًا معرفيًا قائمًا:
كلّما مارس الإنسان فعل التعلم والاكتشاف، انقادت له القوى الكونية تسخيرًا، لأن الرب جعل النظام الكوني قائمًا على هذا التفاعل.
الخاتمة
إنّ قوله تعالى: ﴿وعلّم آدم الأسماء كلها﴾ ليس نصًا عن واقعة ماضية، بل هو تأسيس لسنّة معرفية مستمرة في النفس الإنسانية.
الضمير (هم) في قوله ﴿عرضهم﴾ لا يعود على الأسماء بل على الموجودات المسماة، مما يثبت أن التعليم متعلق بوعي المسمّى لا بحفظ اسمه.
واسم الإشارة (هؤلاء) يدل على حضور محسوس واعٍ، يؤكد أن العرض فعل إدراك مباشر لا مجرّد نطق.
ومن ثمّ، فإن تعليم الأسماء هو تفعيل لقدرة الإنسان على المعرفة والعمران، والعرض هو مشهد دائم في علاقة الإنسان بالكون، والسجود هو خضوعٌ علميّ لقانون الوعي والاكتشاف.
فالنصّ القرآني هنا لا يحكي ماضيًا، بل يصف بنيةً حيةً من سنن الرب في الإنسان والوجود:
كلما تعلّم الإنسان، عُرض عليه الوجود من جديد، فانقادت له قواه، وسجدت له الملائكة تسخيرًا.
			
											
				
					
	
	
	
	


اضف تعليقا