أزمتنا غياب أمة راشدة وليس حاكماً راشداً

 ‏عندما وصل المجتمع الإنساني إلى بدء سن الرشد والنضج اقتضى الأمر رفع الوصاية الإلهية المباشرة عنهم ، وتمكينهم من البدء في عملية قيادة وإدارة أمورهم بنفسهم ، فأنزل الله عز وجل كتاباً جامعاً لكل ماسبق من تعاليم إنسانية، وأكمله بما يلزم للمجتمعات الإنسانية من أسس النهضة والرشاد والهدى والفلاح. فبعث الله رجلاً راشداً صالحاً ،وجعله رسولاً وأنزل عليه الكتاب المكمل لما سبق [ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ] .

قال تعالى : [ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ] البقرة 185 وقال : [ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين] آل عمران 138 وقال : [ هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ] الجاثية 20 وقال:[ قل إنه أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا ، عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به] الجن 1-2وقال : [ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ] غافر 29 ففكر الرشاد والهدى والفلاح قد تم تأسيسه وجمعه وإكماله في كتاب واحد ( القرآن ) بعد أن كان موجوداً في عدة كتب ،نزلت متفرقة خلال فترات زمنية طويلة مرتبطة بمعطيات تاريخية وموجهة إلى أقوام معينة كل على حدة . والسؤال الذي يفرض ذاته بقوة هل وجود فكر رشدي يقتضي بالضرورة وجود الأمة الراشدة ؟!

والجواب حاضر في تاريخ الإنسانية ألا وهو انتفاء وجود الرابط السببي بينهما . فلقد نزل القرآن الذي يحمل أسس الرشاد والهدى والرحمة والنهضة بالمجتمعات الإنسانية ، وقام النبي العظيم بنشر وتبليغ هذا الفكر الرشدي وتمثيله على أرض الواقع حسب المعطيات الزمكانية حينئذ ، وبهذا العمل منه حصل في المجتمع الإنساني وجود الفكر الرشدي والقيادة الراشدة مع محاولة تأسيس الرشاد في بنية المجتمع ذاته، وقد نجح في زرع نواة راشدة في المجتمع تمثلت في مجموعة صغيرة من أصحابه ولم يتأسس مجتمع راشد ، وتوفي النبي العظيم لانتهاء دوره الرسالي ، وانتقل حمل الرسالة إلى المجتمع كله . والذي حصل في الواقع بعد وفاة النبي العظيم أن المجتمع انشغل بمشاكل سياسية وبناء وإدارة الدولة التي كانت حديثة عهد بالولادة، فضلاً عن أن العرب لم يعرفوا هذاالنظام المركزي فيما سبق ، كل ذلك وغيره من المشاكل والأحداث ساهمت بصورة كبيرة في اهتمام القيادة ببناء الدولة والمحافظة عليها ، وكان ذلك على حساب ثقافة الأمة ،فتم تهميش البناء الثقافي الرشدي للأمة ،مما أتاح للثقافة الجاهلية وآليتها العقلية الكامنة في نفوس المجتمع من عملية البعث والحياة وتسللت إلى الثقافة الرشدية فدخلت تحت ظلالها وانتشرت بين يديها تارة باسم تفسير القرآن وأخرى باسم الحديث النبوي ، فتم الكذب والوضع على لسان النبوة ، واختلطت الثقافة الجاهلية وأسسها بالثقافة الرشدية ،واستمرت المجتمعات تحمل هذه الثقافة الملوثة ،ويتم تأسيس مفاهيم المجتمع عليها . وتم وئد القيادة الرشدية في زمن مبكر جداً ، وخرج من الأمة الضالة أئمة ضلال قادوها في ضلالها بضلال ، فترسخ الفكر الاستبدادي وتم زرعه في نسيج الثقافة الرشدية، فظهرت الثقافة الاستبدادية بلباس الثقافة الرشدية، وتم استعبادالشعوب بناء على ذلك وقام القادة المستبدين بتوجيه هذه الشعوب إلى القتال تحت اسم الجهاد في سبيل الله ، واستغلوا الدين استغلالاً كبيراًيهدفون من ذلك الغنائم لبناء دولهم وتمكين سلطانهم وإشغال الأمة عن نفسها وبناء ذاتها حتى تبقى مستعبدة ،ويطول زمن الاستعباد حتى تصير ثقافة الاستعباد كامنة في نفوس المجتمع ومُقوم من مُقومات الثقافة، يقوم الآباء بغرسها في نفوس الأبناء تربية، فيظهر جيل مستعبد ويسهل استعباده ومص دماءه ، ويتم توارث السلطة أو انتقالها إلى مستبد أقوى ، وهكذا استمر تداول السلطات في التاريخ إلى أن وصلنا إلى الحضيض !!! فنحن الآن أمة فاقدي القيادة الراشدة ، وكذلك فاقدين للثقافة الرشدية ، والأمة لم تصل في تاريخها إلى الرشاد أصلاً!! بمعنى آخر نحن أمة فاقدين للرشاد على صعيد القيادة، وعلى صعيد الشعب !!! وصار عدونا يكمن في داخلنا، وهو أخطر علينا من العدو الخارجي. والمشكلة والأزمة ليست هي غياب القيادة الراشدة لأن القيادة بحاجة إلى مركب تقوده ، وإذا انتفى المركب انتفت القيادة ضرورة . فغياب الثقافة الرشدية عن الأمة كمجتمع هي الأزمة والمشكلة العويصة التي تسمح بصورة مستمرة من ظهور قيادات استبدادية تمارس استعباد الجماهير ، ولا يهم الانتماء العرقي أو الطائفي للاستبداد ، لأن الاستبداد واحد مهما تلون أو تغير شكله من فرعون إلى هامان أو قارون فالنتيجة هي حكم المجتمع بثقافته التي يحملها، إذن القيادة تنبثق من المجتمع ، فالمجتمع الذي يحمل ثقافة جاهلية تقوم على الاستبداد والاستعباد يتم حكمه بناء على ثقافته ، والمجتمع الذي يحمل الثقافة الرشدية التي تقوم على المشاركة والعدل والحرية والسلام والإنسانية ونبذ الظلم والعنف يتم حكمه بناء على ثقافته . وإذا وجد قائد راشد لمجتمع جاهلي فسرعان ما يتم اغتياله أو إزالته عن القيادة ،والأمر مرتبط بالوقت ليس أكثر !!! لأن بذور الثقافة الرشدية لاتنبت بالهواء !! بل لابد لها  من تربة خصبة حتى تتعمق في بنيتها وتترسخ،  ثم تنمو بصورة طبيعة تتناسب مع جذورها بصورة طردية، كلما كبرت واتجهت إلى الأعلى كلما امتدت الجذور وغاصت في التربة لتحمل هذا البناء العظيم .

فالمشكلة التي نعاني منها الآن ليست هي غياب القيادة الراشدة، وإنما غياب المجتمع الراشد الذي يكون قاعدة وتربة وجذور للقيادة الراشدة والعكس غير صحيح ،لأنه لا يمكن أن تنمو ساق شجرة دون جذور في التربة !! . لذا ينبغي أن يتوجه العلماء والباحثون والمفكرون في الأمة إلى المجتمع لإعادة بنائه من جديد بثقافة رشدية، وفصل الثقافة الجاهلية عن الثقافة الرشدية بصورة متميزة على صعيد الفكر والعلوم والتربية ، والعمل على نشر هذه المفاهيم الثقافية وزرعها في المجتمع والعناية بها حسب قانون التغيير ، وعامل الزمن عنصر هام جداً في عملية التغيير ، فالشجرة لا تنمو بلحظة ، كما أن نمو الساق له علاقة بنمو الجذر والعلاقة بينهما جدلية . والأساس لهذه الثقافة الرشدية هو القرآن بصفته هدى ورحمة وشفاء وبيان للناس ، لذا ينبغي الانطلاق منه ، والاعتماد عليه ، واستصحابه في عملية التغيير

وينبغي إرجاع ثقافة القرآن للمجتمع ، وجعلهم يتعاملون معه بصورة مباشرة دون وصي أو رقيب من السلف عليه . فالأزمة التي نمر بها اليوم ليست وليدة الأمس وإنما هي حصيلة نتاج قرون مضت من التخلف والانحطاط ، فمشكلتنا ليست مع القيادات السياسية ، وإنما مشكلتنا مع ثقافتنا الكامنة في نفوسنا والتي ورثناها عن آبائنا، والقرآن قد نبه إلى ذلك بقوله :

[ قل هو بما كسبت أيديكم ] .

[ قل هو من عند أنفسكم ] .

[ إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ] .

وهذه الثقافة ليست هي ثقافة العبادات والأخلاق وإنما هي ثقافة اجتماعية متعلقة بالمنهج وأصول التفكير وبناء الشخصية بصورة فاعلية ومتفاعلة مع المجتمع ومؤسساته ومراكز القوى فيه . وينبغي الحذر من ثقافة الفعل ورد الفعل لأنها انفعال بالواقع وليس تفاعل وبالتالي لا يصدر منه فاعلية ونهضة !! وإنما ينتج عنه الدم والخوف والرعب الذي سوف يكون غذاءً وسماداً للاستبداد والاستعباد ،لذا ينبغي منع الغذاء والسماد عن تربة الاستبداد وذلك بنبذ العنف،ونشر ثقافة السلام والمحبة ، ثقافة النهضة والحضارة ، ثقافة البناء والتقدم ، ثقافة الحوار والتعايش ، ثقافة الرأي والرأي الآخر .