مفهوم شهادة الذرية

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172

نجد في النص أن الخطاب يدور حول عملية شهادة تمت من بني آدم، وفعل الشهادة حتى يصح لابد  أن يكون الشاهد عاقلاً مدركاً لما يشهد عليه، كما أنه لابد من واقع يكون محلاً للشهادة، مما يؤكد أن هذه الشهادة حصلت من بني آدم  في عالم الشهادة وليس في عالم آخر نحو ما يقال عنه عالم الذر المزعوم.

فكيف حصلت الشهادة؟

إن كلمة (أخذ) في النص فعل ماض، وهذا الفعل محله بني آدم كجنس وليس واحداً أو جماعة بعينها مما يدل على أن فعل (أخذ) مستغرق إلى يوم القيامة حكماً لذلك استخدم الله سبحانه وتعالى فعل الماض ليدل على ذلك، وهذا أسلوب معروف بالقرءان نحو{أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }النحل1، وذلك لأن أمر الله قادم لاشك فيه والمسألة هي مجرد وقت فقط صح أن القول: (أتى أمر الله) بصيغة الماضي لأن الإتيان حكماً قائم.

فليس المقصد من فعل الماضي (أخذ) في النص المعني بالدراسة أن ذلك الفعل حصل وانتهى وإسقاطه على بعض التفسيرات الإسرائيلية نحو عالم الذر أو غيره الموجودة في كتب التفسير، ويكفي لإبطال ذلك التفسير الذري للنص إضافة لما سبق من أن ذلك يحدث في عالم الشهادة وليس عالم الوهم أو الحلم، والنص يتكلم عن بني آدم كجنس بكامله{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }بينما الروايات التي يستشهد بها المفسرون تتكلم عن شخص آدم بعينه وإخراج الذرية من ظهره فقط.

فعلمية الأخذ في الواقع هي إخراج الذرية من ظهور الآباء (الولادة) إلى عالم الشهادة وهذا الإخراج (الولادة)هو عمل مستمر لكل جيل إلى يوم القيامة وعلى هذا الجيل الجديد أن يقوم بعملية الإدراك لهذا العالم المشاهد وتوظيف هذا الإدراك للإيمان بربوبية الله الخالق المدبر فيتم التفاعل بين عالم الشهادة والإنذار مع النفس الإنسانية فتحصل عملية الشهود الذاتي من خلال التفاعل، وهذا التفاعل أو الشهود الذاتي أمر لازم للإنسان لا يستطيع أن ينكره في قرارة نفسه أو يهرب منه ، وإنما يستطيع أن يجحده نحو قوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }النمل14، ويستطيع أن يدعي أنه نسيه أو غفل عنه: { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }، ويستطيع أن يرمي المسؤولية على آبائه ليبرر شركه وخطئه وضلاله{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }الأعراف173.

فهذه العملية للشهادة هي أمر لازم للإنسان بكونه يعيش في عالم الشهادة.

فقد أخبر الله الخالق المدبر العالم بشكل إحصائي ومحيط واستقرائي: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14، بالمبررات التي سوف يعرضها المشركون يوم القيامة لتبرير شركهم وذلك قبل أن يفوت الأوان وهم ما زالوا في عالم الشهادة والتكليف أن هذه الأعذار والتبريرات مرفوضة ، وهذا الإخبار من سبحانه وتعالى في عالم الشهادة هو من تمام حكمته ورحمته لعباده حتى لايعيش المشركون ويظنون أنهم ناجون يوم القيامة بأعذار يلفقونها من تذلل وإظهار الضعف والغباء والغفلة  حتى يرحمهم الله{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } فيخبرهم الله في عالم الشهادة والتكليف قبل فوات الأوان أن هذه الأعذار الواهية والاستغباء والتظاهر بالغفلة والتدليس كل ذلك مرفوض ولن تنجح حيلهم لأن الحجة قائمة عليهم من عالم الشهادة وقد شهدوا على ذلك في قرارة أنفسهم والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، فعلى من تنطلي هذه الحيل والتدليسات و الاستغباء والتظاهر بالغفلة؟

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ }{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }الحجر92- 93