مقامات النبي محمد الثلاثة البشر، النبي ، الرسول

الثابت أن الأنبياء كلهم بصرف النظر عن خلقهم أو طريق ولادتهم هم كائنات بشرية يصيبهم ما يصيب البشر ، ويمارسون حياتهم مثل سائر البشر، ولهم غرائز بشرية ، وغرائز نفسية، وحاجيات نفسية ، وحاجيات بشرية عضوية. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ }فصلت6 ، لاحظوا كلمة ( بشر مثلكم) ولم تدخل كاف التشبيه على الكلمة لتصير ( كمثلكم) لأنها لو دخلت لكان النبي ليس بشراً في كل شيء، وإنما يشابه البشر في شيء ويختلف في شيء آخر، وبانتفاء حرف التشبيه ( الكاف) يدل على أن النبي بشر مثلنا تماما دون أي فرق بيننا في البشرية.

وعاش النبي محمد فترة طويلة تقارب ثلثي عمره وهو بشر مثلنا لا فضل له علينا أو ميزة سوى أنه رجل على خلق وحكمة، وكان يمارس حياته بشكل طبيعي، فنزل عليه الوحي الإلهي ليصطفيه من دون الناس ليحمل مهمة النبوة والرسالة، فصار رسولاً نبياً.

فهل انتفت بشرية النبي أم بقي بشراً وأضيف له مقام النبوة؟

والواقع أنه بقي بشراً وأضيف له مقام النبوة الذي يقتضي في طبيعة الحال أن يكون رسولاً .

وكان النبي يمارس حياته بشكل طبيعي بين الناس ويتكلم معهم ، وكان بعض الصحابة يختلط عليهم الأمر فيرتبك في التعامل مع النبي وحديثه ؛ لا يعلم هل هو حديث صدر منه من المقام البشري ، أم من مقام النبوة أم من مقام الرسول، لنضرب أمثلة على ذلك:

1- مقام البشر:

أ- نهى النبي عن إتيان الرجل زوجته المرضعة، ومن ثم رجع عن ذلك عندما علم أن الروم والفرس يفعلون ذلك منذ فترة من الزمن طويلة ولم يضرهم شيئا، فاعتمد على الإحصاء المعلوماتي وليس على الوحي.

عن عطاء عن بن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينهى عن الاغتيال ثم قال: لو ضر أحدا لضر فارس والروم، فثبت بهذا الحديث الإباحة بعد النهي فهذا أولى من غيره وجاء نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك أنه كان من جهة خوفه الضرر من أجله ثم أباحه لما تحقق عنده أنه لا يضر ودل ذلك أنه لم يكن منع منه في وقت ما منع منه من طريق الوحي ولا من طريق ما يحل ويحرم ولكنه على طريق ما وقع في قلبه صلى الله عليه و سلم منه شيء فأمر به على الشفقة منه على أمته لا غير ذلك. رواه الطبراني والبزار ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد) ( شرح معاني الآثار) و( ومشكل الآثار ) للطحاوي.

ب- أخرج مسلم (2363) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال : لو لم تفعلوا لصلح قال : فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم ؟ قالوا : قلت كذا وكذا ، قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم .

واضح من الأحاديث هذه وغيرها أن النبي كان يتعامل مع الأحداث من منطلق كونه بشراً يأمر وينهى ضمن دائرة المباح، ويرجع عن قوله إن تبين له خطأ ما أمر به أو نهى عنه ولا علاقة للوحي في هذا المقام البشري ولا يتدخل في اجتهاده أصاب أو أخطأ في تقدير الموقف أو الحدث.

2- مقام النبي:

هذا المقام متعلق بقيادة المجتمع الذي يعيش النبي فيه، وتعليم الحكمة ( المنهج) وتبيين كتاب الله لهم، والإمامة وفق ما ينزل عليه من الوحي لا يتجاوزه زيادة أو نقصاناً ، ويتحرك وفق حدود الشرع الإلهي بناء على فهمه له، ويجتهد في معالجة الأحداث بناء على رؤيته لها ، ويصيب أو يخطئ ، أو يختار الحل الحسن دون الأحسن ، أو خلاف الأولى، وحركة النبي في هذه الدائرة ليست متعلقة بتشريع أحكام دينية إلهية، وإنما متعلقة بمعالجات ضمن دائرة المباح، وعندما يريد الشارع منه حلا ً معيناً أو توجيهاً محددا ً ينزل عليه الوحي موجهاً ومسدداً له للحل الأمثل والأحسن ، وهذا ليس لكل معالجات النبي للأحداث وإنما للأمور التي يريدها الله فقط ، والنبي معصوم في هذا المقام عن القتل كونه نبي صاحب رسالة وكتاب. لننظر إلى بضع أمثلة:

– حادثة الأسرى ، فقد ارتأى النبي أن لا يقتل الأسرى وهو حل حسن، ولكن الله يريد الأحسن والأولى في مثل هذه الظروف وخاصة أن المعركة مع الكفر وأهله في بدايتها فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }الأنفال67 .

– عرقلة النبي طلاق زيد لزينب حتى يؤخر تنفيذ أمر الله بالزواج من طليقة زيد لإبطال حكم تحريم الزواج من ابن التبني ، وهذا أمر ضمن المباح ولكن خلاف الأولى لأن أمر الله ينبغي أن يطبق عاجلاً أو آجلا ً فلا مبرر للتأخير ، فنزل الوحي عليه يأمره بتوقيف عرقلة الطلاق ويطلب منه الزواج منها بعد طلاقها من زيد، {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }الأحزاب37.

– حرم النبي على نفسه شيئاً مباحاً مرضاة أزواجه ظناً أن ذلك لا مانع منه طالما أنه أمر شخصي ، فنزل عليه الوحي يذكره أنه نبي وهو أسوة حسنة وما ينبغي أن يحرم على نفسه ما أحل الله ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التحريم1 رغم أن تحريم النبي على نفسه لم يكن تحريماً دينياً وإنما بمعنى المنع الدائم لتناول هذا الشيء ، فنزل الأمر الإلهي بتصويب سلوكه وإلغاء قراره .

هذا المقام النبوي هو محل اجتهاد ودراسة ونظر ، والنبي يصيب فيه أو يخطئ ، وهو غير متعلق بالأحكام الدينية وإنما بالمعالجات للأحداث وفق ما يرى النبي مناسبا ً لزمانه ومكانه وفق معطيات المجتمع والبيئة، ولا يتدخل الوحي في اختياره للحل المناسب أو الأنسب ، أو الحسن أو الأحسن أو ربما يخطئ في علاجه للحدث ، ولكن وفق دائرة المباح لا يتجاوز حدود الله ، ويقوم بعملية التبيين لكتاب الله من خلال إظهار معانيه لمن خفيت عليه لأن كتاب الله هو مبين بذاته.

وكما هو ملاحظ أن مقام النبي هو مقام شخصي لازم لحياة النبي ومتعلق بقومه ومشاكلهم ، فإن مات النبي توقف نشاطه الاجتماعي والتعليمي والدعوي وقيادة الناس لتعلق كل ذلك بشخصية النبي . وبناء على هذا المفهوم نلاحظ أنه لم ينزل ولا نص قرءاني يأمر بطاعة النبي لأنه سوف يموت ولن يكون محل طاعة لمن بعده ، والطاعة متعلقة بالحي لا بالميت.

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }الزمر30 ، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }الأنبياء34.

ولذلك قال أبو بكر مقولته الشهيرة حينما توفي النبي : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

3- مقام الرسول:

هذا المقام متعلق بمفهوم الرسول ووظيفته ، وهو معصوم عن النسيان أو الضياع في ذلك والعصمة موجهة للرسالة وليس لشخص النبي.

ووظيفة هذا المقام تحققت بصورتين:

– الأولى:البلاغ المبين : قال تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }العنكبوت18 .

– الثانية: تلاوة القرءان: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ }النمل92

فالرسول له وظيفتين: البلاغ المبين، وتلاوة القرءان ، فإن انتهى من ذلك يبدأ دور النبي و هو التعليم والتبيين ودعوة الناس إلى الله ، وعندما اكتمل نزول القرءان وتلاه الرسول كله على الناس وبلغهم إياه توفاه الله لانتهاء مهمته الرسالية، ومن الطبيعي أن تتوقف وظيفة النبوة لتعلقها بشخص النبي. { …الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً …}المائدة3

وبعد هذا التفصيل نصل إلى أن النبي محمد له ثلاثة أنواع من الأحاديث وهي:

1- حديث بشري : لا علاقة للوحي به ، وهو متعلق بالأرضية المعرفية للنبي في زمانه ، ويخطئ ويصيب ، وقد يتراجع عن قوله.

2- حديث نبوي : وهو تفاعل النبي مع القرءان بواسطة الحكمة يقوم بتعليم مجتمعه ودعوتهم وتبيين ما خفي عليهم من أحكام الكتاب، و الحديث من كلام النبي وتأليفه وليس وحياً قط، وقد يخطئ أو يصيب ، وهو يتحرك ضمن مجال المباح وفق حدود الله لا يتجاوزها ، وقد ينزل عليه وحي ليوجهه نحو أمر معين هو الأحسن والأمثل في حادثة معينة، وهذا ليس دائماً.

3- حديث الرسول: هو كلام الله وحديثه ذاته ، ولا يوجد للرسول حديث خاص به .

{اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً }النساء87 (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (الجاثـية:6)

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (المرسلات:50)

لذا؛ من الخطأ الفاحش الخلط بين حديث النبي محمد كبشر ، وحديثه كنبي ، وحديثه كرسول فالأمر ليس سواء لما يترتب عليه من خطورة، ولم يعد مقبولاً من أحد أن يقول هذا حديث نبوي وهو حجة وبرهان ويعده مصدر إلهي بعد أن عرف التقاسيم لحديث النبي.

وبعد فهم حديث النبي محمد بأنواعه الثلاثة نأتي لمعرفة مفهوم النص التالي: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى }3 {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }النجم4 ، فالنطق ليس عاما يشمل كل ما ينطقه النبي في مقاماته الثلاثة ( البشر، النبي ، الرسول) وإنما هو خاص بحديث الرسول المتعلق بحديث الله الذي هو القرءان فقط.