العقل ( يعقلون )
عقل: العين والقاف واللام، أصل صحيح، يدل على حبس ومنع؛ ومن ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل، مقاييس اللُّغة.
فالملاحظ في الثّقافة العربية، أنَّ دور العقل ينحصرٌ في منع وحبس الإنسان من الانزلاق في الرّذيلة، وسوء الأخلاق، ودفع صاحبه إلى المروءة ومكارم الأخلاق، فالعقل في الثّقافة العربية، هو مجرد أداة أخلاقية، وعلى ذلك درجت الثّقافة الإسلامية؛ متأثرة بالوسط العربي، إذ أن الثّقافة العربية، هي الوسيط والنّاقل، والحامل للثّقافة الإسلامية؛ فحينما نزل القرآن عربيَ اللسان، تأثر تفسيره وفهمه بثقافة العرب واستخدامهم للسان، وانتشر الإسلام ـ وفق الصّورة التي فهمها المجتمع الأول ـ إلى المجتمعات الأخرى، وتأثرت المجتمعات الأخرى بالمجتمع الذي نزل عليه القرآن، وعُدَّ المجتمع الأول ـ بسبب نزول النّص القرآني عليه، ونطقه باللسان العربي بصُورة فصيحة ـ معياراً لفهم النّص القرآني، ومن هذا الوجه، وُلدت التيارات السّلفية داخل الثّقافة الإسلامية، وعلى الرغم من التنوع والاختلاف الظاهر، فيما بينهم؛ فلا يَعْدِمُ ـ كلهم ـ من إيجاد سلف، قال بقولهم وهم تبع له؛ لأنَّ المجتمع الأول حوى كل البذور التي تم استنباتها فيما بعد، بمدارس ثقافية وحركات سياسية،. فالثّقافة العربية قبل الإسلام، لم تنقرض، وإنَّما توقفت برهة من الزّمن، نتيجة ولادة الثّقافة الجديدة الممثلة بالإسلام، فانكمشت على نفسها، ولاسيما في صدر الإسلام بعهد النّبوة، ولكن فيما بعد، دخلت في الثّقافة الإسلامية، وظهرت كوسيط، وأداة معرفة وتفكير، فُهِم الإسلام بموجبها وعلى ضوئها، بل وأخذ جانب التّصنيف والتّقعيد للعُلُوم الإسلامية، صفة الاعتماد عليها، وظهر ذلك ـ بصُورة واضحة وجلية ـ في كتاب (الرّسالة) في أصول الفقه، للشّافعي، وكتاب (الكتاب) في اللُّغة لسيبويه، وغيرها من الكتب والأبحاث الأولى، التي صُنفت مبكراً في تقعيد العُلُوم.
إذاً، ينبغي ـ أولاً ـ أن نعرف المعنى والدلالة، لكلمة (العقل ) في الاستخدام القرآني ؟
نلاحظ، من خلال تتبع كلمة ( العقل ) في النّص القرآني، أنها جاءت بصيغة فعل ( يعقلون، تعقلون، نعقل…) ولم تأت ـ قََََََََََط ـ بصيغة اسم؛ ولهذا دلالة في النّص القرآني، ينبغي التّنبه لها، انظر ـ مثلاً ـ قوله تعالى:
1 ـ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (الملك 10).
2- {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } (الأنفال 22).
3 ـ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (البقرة 242).
قد يقول قائل: إن القرآن نزل عربي اللسان، وَفق نظامه وقواعده؛ فهل يمكن أن يحصل خلاف بينهما ؟.
والجواب: إنَّ القرآن نزل عربي اللسان، ولم ينزل قومي الثّقافة؛ بمعنى أنَّ النّص القرآني تقيد بنظام اللسان العربي، ولم يتقيد باستخدامات الصّور، والدّلالات، التي تم اختيارها من اللسان العربي حسب الأدوات، والمستوى المعرفي المتاح للمجتمع الذي نزل عليه القرآن وذلك لأنَّ النّص القرآني نزل ـ ابتداءً ـ عالمي َالانتشار، إنسانيَ المحتوى، مستمراً في الزّمان، ولم ينزل للعرب والمجتمع الأول فقط، بل نزل على المجتمع العربي الأول، إلى العرب خاصَّة، والنّاس عامَّة.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سبأ 28).
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (آل عمران 19).
وهذا يدفعنا إلى دراسة دلالة كلمة (عقل) في اللسان العربي، ثم َّ ندخل إلى عمق النّص القرآني.
إن ضد كلمة (عقل) مبنى ومعنى، كلمة (لقع)، وقديماً قيل: وبضدها تتبين الأشياء، فماذا تعني كلمة (لقع) ؟
لقع: كلمة تدل على رمي شيء بشيء وإصابته به، مقاييس اللُّغة.
فنلاحظ، أن نهاية كلمة (لقع) هي بداية كلمة (عقل) والعكس صواب، ما يؤكد، على أن مدلول كلمة (لقع) ـ في الواقع ـ يبدأ حيث ينتهي مدلول كلمة (عقل)؛ إذاً، لابُدَّ من أن نحلل دلالة أحرف كلمة (عقل).
ع: تدل على العمق.
ق: تدل على انتهاء ووقف وقطع شديد.
ل: تدل على حركة بطيئة متصلة لازمة.
ومن خلال معرفة دلالة الأحرف ـ في الواقع ـ تعالوا لنطبق ذلك على كل من دلالة كلمة (عقل) و (لقع) ؟
نلاحظ، أن كلمة (عقل) عندما بدأت بحرف (العين) أخذت فعل العمق، وعندما جاء بعدها حرف (القاف)؛ أعطى فعل العمق، وقفاً لحركته بصُورة شديدة، وجاء حرف (اللام)؛ ليحرك الفعل بهدوء متواصل، وفق القطع والوقف الذي تم، وإذا عكسنا تموضع الأحرف (لقع)، نلاحظ أنَّ العملية، تنعكس – في الواقع – من حيث ابتداء الكلمة بحرف (اللام)، الذي يدل على الحركة المتواصلة الخفيفة، وجاء بعده حرف (القاف)؛ ليدل على وقف هذه الحركة وقطعها، وجاء بعده حرف (العين)؛ ليدل على نهاية الحركة عند شيء معين أصابته، ومن هذا الوجه، فسر العلماء دلالة كلمة (لقع) برمي شيء بشيء، يصيبه به، وهذا دلالة تموضع أحرف (لقع) تماماً.
فهل أحسن العلماء، عندما فسروا كلمة (عقل) بحبس ومنع ؟
نلاحظ أنهم أتوا بجزء من الحقيقة؛ وهي دلالة حرف (القاف) فقط، وأغفلوا دلالة حرف (العين واللام)، انظر مثلاً القول المشهور: ( اعقلها وتوكل ) كيف فهمه العرب؛ بمعنى تقييد وتوثيق الدّابة، بحيث تُمنع من الحركة، مع العلم أن كلمة: (اعقل الدّابة) غير دلالة ( قَيِّد الدّابة )، فعندما يراد ذبح الشّاة، تُقَيد منعاً لحركتها، بينما عندما تكون في المرعى، أو داخل العمران، تُعقل؛ بمعنى تحديد حركتها، بمساحة معينة، لا تتجاوزها إلى غيرها، وذلك من خلال ربطها بحبل طويل.
إذاً، دلالة كلمة (عقل)، هي اختيار، يعقبه تحديد، يعقبه حركة منضبطة بما حُدد لها، وبناء على ذلك، يمكن أن نضبط تعريف كلمة (عقل) على الصّورة التّالية:
عقل: إرادة جازمة حابسة على حركة منضبطة؛ وبهذا المعنى، يتم التّوافق الضّدي مع دلالة كلمة (لقع).
إذاً، كلمة (عقل) تدل – ابتداء- على الإرادة الجازمة لساناً، وهذه الإرادة لا تتأتى ـ في الواقع ـ إلا بعد الإدراك والانتهاء عند أمر معين، يتوقف عنده، ومن ثمَّ، تتم الحركة وَفق هذا الأمر، بصُورة منضبطة به، مقصورة عليه، لا تتجاوزه إلى غيره.
وبناء على ما ذكرت، نلاحظ أن كلمة (عقل) لا تُستخدم إلا للإنسان، فهي من أفعاله، فهو الذي يعقل، ومن هذا الوجه قيل: الإنسان حيوان عاقل.
وسميت القوة المميزة (الفؤاد) المدركة في الإنسان (العقل) الذي هو منحة من الخالق للإنسان ـ دون سائر المخلوقات ـ وذلك من باب تسمية الشّيء بوظيفته ومآله؛ لأنَّ الفؤاد لا يمكن أن يظهر ـ في الواقع ـ إلا من خلال عملية التّعقل، فصار فعل (عَقَل) هو المعني بالدّراسة، وذلك أشبه ما يكون بفعل (كتب)؛ فنسمي من يقوم به (كاتب).
ولما نزل النّص القرآني، استخدم صيغة الفعل من كلمة (عقل)؛ لأن قيمة الفؤاد بفعله، انظر قوله تعالى:.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (الأنفال 22)
فالكائن الإنساني، يشترك مع الكائنات الأخرى، بصفة (الدَّبْ)؛ فهو من الدّواب، ويتميز عنهم بصفة (العقل)؛ فإذا لم ينتج عن هذا العقل (الفؤاد) فعل يعقلون؛ فهو شر من الدّواب على الإطلاق، وذلك لامتلاكه هذه المقدرات الإدراكية (النّفس) ويملك تعطيلها؛ فلا يستقبل شيئاً عن طريق الأذن، ولا يرسل شيئاً عن طريق النّطق، (صم بكم)، ومن ثمَّ، لا يصدر منه أي عمل عقلاني ( بمعنى أي عمل، منضبط بقواعد، لمنفعة النّاس وخيرهم ) بخلاف الدّواب الأخرى؛ فهي لا تسمع، ولا تنطق، ولا تمتلك ـ في الأصل ـ (الفؤاد)؛ حتَّى يصدر منها فعل (يعقلون) ومن ثم َّ، فليسوا بمحل المسؤولية، والحساب.
إذاً، كلمة (العقل) في الاستخدام القرآني، هي ذاتها التي دلَّ عليها اللسان العربي، فهي وظيفة وفعل للقلب (الفؤاد والدّماغ) تدفع الإنسان إلى التّحليل، والتّركيب وربط الأمور ببعضها، ومن ثم َّ، ضبط حركة هذا الإنسان، بما وصل إليه من وقائع وأحكام، وإلزامه بها دون غيرها من الأمور، التي خرجت من دائرة البحث العقلي (يعقلون).
فالعقل (الفؤاد) لا يمنع من الحركة، وإنَّما هو ضابط وموجه ومحدد للحركة، وهذا يدل على أن الحركة والعمل، هي من مقتضيات العقل، ومن هذا الوجه، جاء استخدام القرآن لكلمة (عقل) ـ دائماً ـ بصيغة الفعل (يعقلون)؛ للتّنبيه على أن قيمة الإنسان بحركته وعمله (تفاعل).
والإنسان الذي يفقد صفة التّفاعل، يكون قد حكم على نفسه؛ بالإعدام من حيث هو إنسان، ورضيَ بالوُجُود البشري فقط، ومن ثم َّ، يموت وتخبث نفسه، وينتظر أهله موته كبشر؛ لدفنه في التّراب ومواراة سوأته، ثم يعود إلى أصله؛ ليفيد البيئة من خلال تحلل جسده إلى العناصر الأولى.
اضف تعليقا