المحكم والمتشابه في الكتاب
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } (آلعمران 7).
إن كلمة الكتاب شاملة لكل ما أنزل الله على رسوله مما هو موجود بين دفتي المصحف مع مختلف مواضيعه.
يخبر الله عز وجل أن الكتاب يحتوي على آيات محكمات عدَّها الله عز وجل أم الكتاب، وآيات أخرى متشابهات، وأخبر أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الآيات المتشابهة بقصد الفتنة، وبقصد تأويله بمعزل عن الآيات المحكمة، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا. ولنرَ الآن معاني مفردات النص:
1- محكمات: من حكم وهي أصل واحد هو المنع. وسمي الحكم حكماً لأنه يمنع من الظلم.
2- متشابهات: من شبه أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً. والمشتبهات من الأمور أي المشكلات.
3-الأم: الأصل والمرجع.
4 – الكتاب: من كتب وهي تدل على الجمع وسمي الكتاب كتاباً لأنه يجمع ما بداخله من الأمور المرتبطة مع بعضها فنقول: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة. أي مجموعة الأمور المتعلقة بهما.
5 – زيغ: أصل يدل على ميل الشيء.
6 – الفتنة: من فتن، أصل صحيح يدل على ابتلاء واختبار .
7 – تأويل: من أول: أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه.
فالآيات المحكمات هي الآيات ذات الدلالة المانعة للبس والإشكال وهي بمجموعها تمثل الجانب الثابت للكتاب من حيث المفهوم، ومن هذا الوجه كانت هذه الآيات أصلاً ومرجعاً للآيات المتشابهة لتقوم بضبطها من حيث الدلالة واستبعاد الخطأ في الفهم لها مع السماح بتطور فهمها ضمن مفاهيم الآيات المحكمة ولذلك أطلق الله عز وجل على الآيات المحكمات وصف (أم الكتاب) لأنه تحققت بها صفة الأصل والمرجعية للآيات المتشابهة التي تمثل الجانب المتغير في الكتاب حسب تغير الزمان والمكان والتطور المعرفي للمجتمعات أما الذين في قلوبهم زيغ عن الحق فيقومون باتباع الآيات المتشابهة دون إرجاعها إلى أمها الآيات المحكمات، ويقصدون من عملهم هذا نشر الفتنة بين الناس وذلك من خلال طرح الموضوع اعتماداً على الآيات المتشابهة فقط دون الرجوع إلى الآيات الأم التي هي الأصل والمرجع لأي موضوع نحو اعتماد بعض الباحثين على آية {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ( الأنعام 125).
ويجعل هذه الآية أصلاً ومرجعاً ويضرب آيات الكتاب ببعضها ليصل إلى أن هناك تناقضاً بين آيات الكتاب، فيزعم أن ما تثبته آية تنقضه أخرى، ووجود هذه الصفة بالكتاب هي التي ساهمت في صياغة أسباب النزول ومفهوم المحكم والمتشابه للخروج من هذا المأزق !! هكذا زعموا.
لذا لا يصح اقتطاع نص من القرآن وفهمه وحده بل لابد من فهم النص ضمن منظومته الكلية كونها الأصل والمرجع للنصوص الجزئية والمتشابهة، ومن هذا الوجه ظهرت مقولة إن الكتاب يفسر بعضه بعضاً، وظهرت أهمية ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد وجعل الآيات المحكمات هي الأصل والمرجع (الأم) للدراسة وعلى ضوئها يتم تفسير الآيات المتشابهة.
أمَّا أصحاب الزيغ فيقصدون من اتباعهم للآيات المتشابهة دون المحكمة الوصول إلى تأويلها في الواقع، بمعنى ادعاء معرفة سقف دلالة هذه الآيات في الواقع وذلك كي يفرغوا الكتاب برمته من الصلاحية والاستمرار الزمكاني، لأن توقف العطاء المعرفي للكتاب الإلهي يؤدي في واقع الحال إلى انتهاء دوره عند آخر عطاء معرفي له، وبالتالي يصير تاريخاً وموروثاً دينياً للشعوب غير صالح للاستمرار والاعتماد عليه، ومن جراء ذلك التأويل السقفي يتم استبعاد الكتاب من الحياة ووصفه بعدم الصلاحية للزمان المعاصر لأنه قد تمَّ تجاوزه معرفياً، وهذا ما قام به المستشرقون ومن حذا حذوهم من الباحثين العرب.
وكون موضوع التأويل يقصد به معرفة السقف المعرفي للآيات المتشابهة فمن الطبيعي جداً أن تأتي جملة (وما يعلم تأويله إلا الله) لأن هذه المعرفة السقفية للآيات مرتهنة بتوقف الحياة والتطور المعرفي والأدواتي، ولا يستطيع أي مجتمع أن يدعي أن التطور المعرفي توقف عنده أو الحياة انتهت ولا يوجد مجتمع لاحق يرث المجتمع الحالي.
فمن هذا الوجه كان الذين في قلوبهم زيغ عن الحق يتعمدون التدليس على المجتمعات ويَدَّعون انتهاء التاريخ(1) بهم وعندهم ويطالبون المجتمعات الباقية باتباعهم في زيغهم بل ويقومون بالوصاية على المجتمعات اللاحقة واغتيال عقولهم وتفكيرهم سلفاً وكل ذلك من جراء اتباع منهج قائم في كل شيء على النسبية والتغير لا يخضع ولا يعتمد على جانب ثابت يكون أساساً للمنهج والموجه له في عملية التغير والتطور.
أما الراسخون في العلم فيعلمون أن الحياة قائمة على جانب ثابت وآخر متغير فيؤمنون بالجانب الثابت [ الآيات المحكمات ] ويقومون بدراسة الآيات المتشابهة من خلال إرجاعها إلى الأصل والمرجع (أم الكتاب) مع عدم ادعاء الوصول إلى السقف المعرفي لهذه الآيات وإنما يتفاعلون معها حسب أدواتهم المعرفية ويكلون المعرفة الحقيقية لله عز وجل فهو وحده العالم بحقائق الأمور ابتداء وانتهاء [ التأويل ].
فالآيات المحكمات (أم الكتاب) هي الجانب الثابت للكتاب وبها يتم التواصل مع المجتمعات السابقة واللاحقة، أما الآيات المتشابهة فهي الجانب المتغير النسبي الذي يضمن التطور للمجتمعات، وبوجود الثابت والمتغير – المحكم والمتشابه – يتم التواصل والتطور، السيرورة والصيرورة.
ولمعرفة الآيات المحكمات من الآيات المتشابهة يجب أن يكون هناك ميزان خارج النص القرآني يكون محلاً للتسليم من قبل الباحثين المختلفين في الرؤى والمرجعيات، وذلك يؤدي إلى أن يكون المحكم عند فلان متشابهاً عند الآخر، وذلك راجع إلى منهج تناول الآيات ودراستها لأن في النهاية جميع الآيات هي نص إلهي مقدس.
فالمنهج والميزان والمعيار الذي يجب أن يكون مستخدماً في عملية تمييز المحكم من المتشابه إنما هو القرآن الموضوعي – الآفاق والأنفس – كونه محلاً للخطاب كما أن الفعل – الواقع- دائماً أصدق وأصرح وأبين من النص اللساني، ولأن فهم النص تؤثر به ثقافة الدارس له، وهذا التفاوت الثقافي والعلمي والعقلي والنفسي ناهيك عن المصالح والهوى عند الباحث يؤدي حتماً إلى الاختلاف في قراءة النص ويؤثر في عملية ترتيب منظومة النصوص ذات الموضوع الواحد. فلذا لا مناص من جعل الواقع – آفاق وأنفس – هو المعيار لقراءة النص وبناء عليه يتم ترتيب منظومة النصوص ذات الموضوع الواحد لجعل النصوص المحكمة أساساً وقاعدة وإطاراً لفهم النصوص المتشابهة بشكل نسبي يتناسب مع الأرضية المعرفية للباحث، والنتيجة هي الوصول إلى فهم ظني نسبي متغير حسب تغير الزمكان وتطور الأدوات المعرفية للمجتمعات مع دوام فعالية النصوص المحكمة كونها قاعدة ثابتة تستمد مصداقيتها من شهادة العدلين اللذين هما محل ثقة وصدق من الجميع (الآفاق والأنفس).
أما نصوص الرسالة فلا يوجد فيها آيات متشابهة، لأن الحكمة تقتضي وضوح الأحكام ليتم الحساب على موجبها.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت 53).
أمثلة عملية على نصوص من أم الكتاب ( محكمات):
1- كينونة الله أحدية صمدية لاصيرورة له.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } {اللَّهُ الصَّمَدُ }الإخلاص1-2
2- قانون نظام الحركة الدائمة لبنية الخلق من الذرة إلى المجرة.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }الأنبياء33
3- قانون الزوجية والثنائية للوجود سواء في بنية الكائن الواحد مثل وحيد الخلية أو الكائنين الزوجين.
{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }الذاريات49
4- قانون جعل الماء أساس للحياة.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30
5- قانون الهلاك والفناء وتغير في الصيرورة
{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }القصص88
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }الرحمن26
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ }آل عمران185
(1) نحو كتاب: نهاية التاريخ لفوكوياما.
اضف تعليقا