مـفـهوم الخـاتميـة {رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}

إنَّ كلمة (خَتَمَ) الخاء والتاء والميم تدل على عملية ارتخاء ودفع خفيف منته بجمع متصل. وظهر ذلك في حياتنا المعيشية عندما نريد أن نُنهي أمراً معيناً متفقاً عليه ، فنبدأ بذكر البنود واحداً تلو الآخر ، مع وقفة عند كل واحد للتحقق والتأكد منه وتثبيته، وهذا الفعل هو دلالة صوت (الخاء والتاء) إلى أن نصل إلى عملية النهاية فنضع البند الأخير الذي يُعطي لما سبقه صفة التصديق، والتواصل، والإكمال والتثبيت، والاستمرار لمضمون الاتفاق دون زيادة أو نقصان، وهذا دلالة صوت (الميم).

ومن هذا الوجه، يتم استخدام فعل (ختم) لكل عمل تم الانتهاء منه بصورة كاملة، مع إعطائه صفة التواصل، والصلاحية والاستمرار، والتثبيت والمصداقية، وهذه الصور لفعل (ختم) اقتضى في واقع حال المختوم؛ أن يكون الخاتَم هو الآخر ضرورة لازمة، وإلا انتفى عنه صفة الختم . وظهر ذلك الاستخدام في ختم العقود والوثائق ، فبعد عملية الختم لا يصح أي زيادة أو تغيير.

فمفهوم الآخر وحده؛ يدل على نهاية الأمر المتكلم عنه ، ولا يُفيد نفي وجود شيء بعده في الواقع إلاّ بقرينة تُحدد ذلك، نحو قولنا : جاء زيد آخر الناس . فهذا الكلام لا يفيد نفي مجيء أحد بعده ، لأنه من المحتمل أن يجيء إنسان بعده . فهو يُفيد الآخرية في زمن التكلم فقط، ولا ينسحب إلى المستقبل، غير أنه لا يُفيد صفة التواصل والمصداقية والإكمال للناس الذين سبقوه ، فكلمة الآخر؛ تدل على مجرد وصف حال الأمر من حيث هو آخر شيء حصل إلى زمن التكلم مع احتمال استمراره.

إذاً؛ دلالة كلمة (الخاتَم) أعم وأشمل من دلالة كلمة (الآخر)، ولا يصح استخدام كلمة (الآخر) بدل كلمة (الخاتَم)  .

قال تعالى : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }يس65 فختم الأفواه؛ هو تثبيت وتوقيف وظيفتها على شيء كامن في داخلها يقوم به جهة أخرى،  وليس إغلاق الأفواه كما تُغلق الأبواب !، لأن عملية إغلاق الفم يقوم الإنسان نفسه بها، بخلاف عملية الختم؛ فلا بد لها من جهة أخرى تختم عليه. وعملية الختم لا يمكن أن يتم فتحها، أو إلغائها إلا من الفاعل الذي قام بالختم . مثل إن قامت السلطات بختم محل تجاري لوقوعه بمخالفة ما . فإن قام صاحب المحل بفك الختم؛ كان فعله غير شرعي ومحاسب عليه.

قال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ }الأنعام46 وقال : {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ }{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }المطففين26 -25

فالمختوم؛ هو شيء تم صنعته بصورة معينة، وتم إنهاءه وتثبيته على ما هو عليه، والمحافظة على أن لا يتم عليه الزيادة أو النقصان، وإعطاءه صفة الاستمرار والصلاحية .

وبعد هذا المدخل المختصر؛ نصل إلى المفهوم الذي هو محل الدراسة ألا وهو:

{رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 

قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الأحزاب40

يخبرنا الله كونه صاحب العلاقة في بعث النبيين، أنه قد جعل النبي محمداً r خاتَماً للنبيين، بمعنى أن ما تم إرساله للناس عن طريق هذا النبي الكريم هو خاتَم لكل ما سبقه من الكتب الإلهية ، حيث تواصل معها، وأعطى صفة التصديق لأصلها ، ولمجموعة من مضمونها، ونسخ أو عدَّل أموراً أخرى، وأضاف أموراً، إلى أن تم إكمال المشروع الإلهي، وتثبيته وإنهاءه، وجمعه في كتاب واحد، فكان هو (القرآن) آخر الكتب نزولاً،وأخذ صفة الكامل والجامع، وكلمة (خاتَم) بفتح التاء، هي قراءة حفص عن عاصم، أما القراءات الأخرى فقد أتت كلمة ( خاتِم) بكسر التاء، وبالتالي يصير معناها أن النبي محمد r هو الفاعل بحضوره الشخصي الذي قام بعملية الخَتْم للنبيين، ومقام الفاعل ليس من النبي نفسه، وإنما جعله الله Uكذلك ، فصار النبي محمداً خاتَماً يتم الختم به بواسطة القرآن، وصار خاتِماً بشخصه يتم به بواسطة القرآن ختم كل ما سبق من دعوات للنبيين .

فَتَمَّ توقيف عملية بعث النبيين لانتهاء مهمتهم، وبلوغ  المشروع  الإلهي صفة  الكمال{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }المائدة3

فكل  نبي هو رسول ضرورة، والعكس غير صواب، فليس كل رسول نبي. والرسول النبي هو على حالتين، أحدهما صاحب رسالة، والآخر تابع له، وكلاهما مأمورين بالتبليغ والدعوة والتعليم وقيادة الناس، ومَثل ذلك مَثل الرسول النبي موسى القائد، والرسول النبي هارون التابع لأخيه ووزيراً له.

فعندما قال الله U: {رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} دلَّ ذلك ضرورة على ختم مقام النبوة بنوعيها: الرسول النبي صاحب الرسالة، والرسول النبي التابع له، وهذا ما يقتضيه عموم النص، ولا يوجد مبرر أو قرينة لاستثناء الرسول النبي التابع من عملية الختم، وحصر الختم بالرسول النبي القائد لأن ذلك تدخّل في مفهوم النص، وإلغاء جزء من دلالته دون برهان، والختم أتى متعلقاً بمقام النبوة فقط دون مقام الرسول، وهذا يدل على استمرار مقام الرسول دون النبوة، وهذا تحقق في كل من حمل الرسالة من بعد النبيين طوعاً من العلماء والدعاة والقادة الراشدين، واستمرار وجود مقام الرسول ضرورة اجتماعية وإيمانية لإقامة الحجة على الناس، والأخذ بأيديهم إلى طريق الصواب والرشاد.

 

   لاحظ أن كلمة (خَاتَم النبيين) في قراءة عاصم لم  تأت  بصيغة  اسم فاعل، لأن النبي محمد r ليس  هو الفاعل  لعملية  الختم، وإنما  الفاعل  هو  الله U، لذا؛ أتت كلمة (خَاتَم النبيين) اسم للشيء الذي يتم الختم به ( أداة )، وهذا ما  نستخدمه في حياتنا العملية من قيامنا بتسمية الشيء الذي نختم به ( خاتَم )، ومن يقوم بالختم يكون خاتِماً، اسم فاعل، ،أما قراءة الآخرين ( خاتِم ) بالكسر، فالفاعل هو النبي بشخصه، ولكن ليس أصالة، وإنما تكليفاً وجعلاً .

إذاً، عملية الختم في واقع الحال موجهة لمقام النبوة الإلهية بنوعيه (القائد والتابع)، وذلك نتيجة إكمال الرسالة، وبالتالي انتهى دور النبيين، فتم توقيف بَعثهم، واستمرت الرسالة الكاملة التي تحتوي مصداقيتها في مطابقة خطابها مع محلها من الواقع من خلال البيِّنات، وآيات الآفاق والأنفس، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }فصلت53. لأن بَعث النبيين كان أمراً لابد منه عند تشكل وتراكم نزول الرسالة الإلهية، وذلك للأخذ بيد المجتمعات الإنسانية القاصرة، وعندما وصل المجتمع الإنساني إلى بداية سن الرشد والنضج ، اقتضى رفع الوصاية الإلهية المباشرة، وتوقيف بعث النبيين لإكمال الرسالة، والذي دَلّنا على وصول الإنسانية إلى بدء سن الرشد؛ هو اكتمال التشريع وحفظه، وتوكيل الأمر إلى الرسل من العلماء والدعاة وقادة المجتمع ليستمروا في عملية التفاعل، والدراسة للرسالة الإلهية الكاملة، ويُسقطوها على الواقع، ويمارسوا مقام الخلافة في الأرض، الذي منحهم إياه الله. { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30

فدلالة كلمة (خاتَم أو خاتِم) تُفيد التواصل، والمصداقية، والصلاحية، والكمال والاستمرار، والإنهاء، والتثبيت، وآخر الشيء، وإن أضيفت للعقلاء لزم منها المدح والفضل والأحسن . كل هذه الأمور مجتمعة؛ هي مفهوم (الخاتمَية أو الخاتِمية).

   لذا؛ لا يَصح وضع مفهوم (الخاتَمية أو الخاتِمية ) مقابل مفهوم (الآخر)، لأن هذا المفهوم قاصر، ولا يدل على تمام وكمال مفهوم الخاتَمية، بينما مفهوم الخاتَمية يشمل مفهوم الآخر، فكل عمل مختوم لا يمكن فتحه، والإضافة له، أو تعديله دون إلغاء عملية الختم، فعندما قال الله U:{رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}  أنهى وأغلق باب بعث النبوة بكمال الرسالة ، وبشخص النبي  محمد  نفسه ، ولن يبعث  الله  نبياً بعد  نبيه  محمد r أبداً؛ لا نبياً قائداً ، ولا نبياً تابعاً، ولا يمكن حصول فعل الختم في وسط الشيء أو في أوله؛ بل لابد من الوصول إلى آخره والانتهاء من الفعل وإكماله. وبالتالي من يَدَّعي النبوة الإلهية بعد النبي الخاتم فهو مُفتري ، ويكذب على الله U وعلى الناس، أو واهم بسبب تماهيه مع الأفكار ولم يعد يفرق بين الحقيقة والوهم وصار  عنده هاجس وهلوسة!.

ولا يصح القول إن استمرار وحي النبوة، وتواصل الله مع خلقه من خلاله، هو رحمة ونعمة، وأمة محمد أَولى من الأمم السابقة في استمرار النبوة فيهم !، وذلك للاختلاف بينهما، فالأمم السابقة أمم ناشئة مبتدئة تحت الوصاية الإلهية، أما حينما وصلت الإنسانية  إلى بداية سن الرشد؛ نزل القرآن بصفته المكملة والجامعة، وأعلن الله رفع الوصاية المباشرة عن المجتمع الإنساني،  وطلب منهم الاعتماد على أنفسهم في عملية  التعامل  والتفاعل  مع  القرآن،  وربط خطابه  بمحله  من الواقع ، ليصيرا -القرآن والعلم – توأمان لا ينفكان عن بعضهما، وأتمَّ نعمته على الناس بإكمال الدين، وبرفع الوصاية عنهم، وتسليمهم مقام الخلافة{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }المائدة3  .

والأمر أشبه بالوصاية على اليتامى، فإذا بلغوا بداية سن الرشد ينبغي أن تُرفع عنهم الوصاية ، ويعتمدون على أنفسهم وفق التعليمات والإرشادات التي تعلموها من الوصي، وإذا استمرت الوصاية بعد ذلك، تَحَوّل الأمر من نعمة ورحمة؛ إلى نقمة وشقاء، وانتفى الاحترام لهم، وفقدوا فاعليتهم ، وكذلك مفهوم إمكانية استمرار النبوة الإلهية بعد إكمال الرسالة،  ووصول الإنسان كجنس إلى بداية سن الرشد، هو نقمة وشقاء، وليس نعمة، ولا رحمة، لأن ذلك تعطيل لمقام الخلافة للإنسان ، وانتفاء التكريم له، والأقوام السابقة لم يكتمل الدين في زمنهم، وبالتالي لم يُتمَّ الله النعمة لهم، ولم يرض عن الدين لانتفاء كماله بعد، وكل ذلك حصل في الأمة الإسلامية، الإكمال للدين، وإتمام النعمة، والرضى من الله، فهذا فضل ونعمة ورحمة وتكريم للأمة لم ينله السابقون، لذا؛ فَقَد سؤال هل استمرار النبوة نعمة أم نقمة مبرر عرضه، لأن هذا السؤال قاصر وبحاجة إلى ضبط، وهو تحديده بقبل إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب، أم بعد حصول ذلك كله؟ فإن كان قبل ذلك فلاشك أن بعث النبيين رحمة ونعمة، وإن كان بعد ذلك فهو عبث وخطأ وجبر وقهر وفقدان الاحترام للناس وإهدار كرامتهم، وتعطيل مقام الخلافة، فصيغة السؤال خطأ، وهو مثل من يقول: الرحمة ظلم أم عدل، وهذا خطأ، لأن الرحمة قطعاً ليست ظلماً ،وهي فوق العدل، وكذلك قول أحدهم: إن لم تكن معي فأنت ضدي.وهذا خطأ أيضاً لأنه يوجد احتمال ثالث، وهو ليس معك ولا ضدك، وإنما موقف حيادي. وكذلك السؤال السابق: بَعث النبيين نعمة أم نقمة؟. فلاشك أن بعثهم نعمة ، ولكن عدم بعثهم ليس نقمة، فالعطاء للناس إحسان وعدم العطاء ليس ظلماً أو كفراً.وهذه أمثلة لتقريب خطأ السؤال وعدم ضبطه.

فالوصاية على اليتامى نعمة ورحمة، ورفعها عن الراشدين نعمة ورحمة وتكريم واحترام وثقة.

وانقطاع النبوة في الناس؛ لا علاقة لها بمسألة انقطاع الوحي، فقد تتم عملية الوحي من الله  لبعض الناس لأمر خاص بهم، لا علاقة للمجتمع به، مثل قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ }القصص7 ، فهذا الوحي الإلهي، ليس وحياً للتكليف بمقام النبوة، وليس وحياً تشريعياً، وإنما هو وحي خاص للإنسان،كرامة، وتأييداً وتوفيقاً، أو توجيهاً أو بُشرى ..، ولا يصلح أن يكون برهاناً لشيء بالنسبة للمجتمع أبداً، ولا ينسخ حكماً شرعياً بحق الفرد، ولا يضيف أي شيء، ولا يُلزِم الآخرين بإتباعه،  أو جعله إماماً، أو يُسمح له بادعاء الإمامة، والقيادة من قبل الله !.

ومن هذا الباب، الإشارات والموافقات، والرؤيا، وما شابه ذلك؛ التي يمكن أن تحصل مع الإنسان، فهي كلها خاصة له، لا تعني المجتمع بشيء من الناحية الفكرية، أو التشريعية، وقد تعني من ناحية الأحداث، مثل رؤيا الملك لسبع بقرات سمان في قصة النبي يوسف،{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف43 وينبغي على الإنسان أن ينتبه لهذه الأمور فلا تخدعه نفسه ويتماهى مع الأفكار، ويظن أنه نبياً، أو مبعوثاً من قبل الله  ! ويدعي النبوة الإلهية أو المهدوية أو المخلص الإلهي، فكل العلماء والدعاة رُسُلاً، والناس عموماً مكلفين بالعلم والدعوة، حسب مستواهم العلمي، والثقافي،{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران110.

أما مسألة الاستدلال على استمرار وجود الأنبياء؛ بنزول عيسى u في آخر الزمن، فهذه مسألة قد تم صنعها كهنوتياً لتبرير ادعاء النبوة،  فالنبي عيسى u أكمل مهمته الرسالية كما أمره الرب، وقد عصمه من القتل بأي طريقة كانت، سواء صلباً، أم قطع الرأس، أم غير ذلك، وأطال عمره حتى أكمل المهمة التي كلفه الله بها، فالنبييون أصحاب الرسالة من أولي العزم معصومون عن القتل المادي الذي يُزهق حياتهم، وذلك موجه لطبيعة المهمة التي كُلِّفوا بها، والقتل للنبيين القادة الذي مارسه اليهود  إنما هو قتل معنوي تمثل بكفرهم وعدوانيتهم ، بخلاف قتلهم للأنبياء التابعين فقد كان قتلاً مادياً، وهذا هو القتل بحد ذاته، وهو غير مرتبط بزمان أو حياة النبي نفسه، بدليل أن القتل لدعوة النبيين مستمر إلى الآن{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }آل عمران21،فهاهم الذين ينتسبون إلى الإسلام تحت اسم الشيعة أو أهل السنة أو غير ذلك من التسميات يقتلون نبيهم محمد  من خلال محاربة دعوته بوعي أو دون قصد، وكذلك مسألة رفع عيسى فهي رفع قيمة، وليست رفع مكان . قال تعالى على لسان عيسىu:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }المائدة117، والوفاة للنفس بغير رجعة تكون حين موتها{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42 ، ولا يوجد وفاة للنفس دون رجعة إلا بموتها، وذلك خلاف وفاة النفس أثناء المنام، فإنها ترجع للحياة الفاعلة في الدنيا. فالنبي عيسى توفاه الله بعد أن مات، وانتهت مهمته الرسالية، لذلك؛ لا يصح أي خبر، أو حديث في نزول عيسى في آخر الزمن، والآيات القرآنية التي يستدلون بظاهرها لإثبات فكرتهم؛ لا علاقة لها بالموضوع أبداً؛ وإنما يتم صرف معناها، وتحميل النص ما لا يحتمل. وما ينطبق على النبي عيسى، ينطبق على مفهوم الإمام المهدي، فما يستدل به أصحاب فكرة الإمام المعصوم، يدحضه أصحاب فكرة الإمام المهدي المسيح، والعكس أيضاً، وهذا لأن كِلا المفهومين غير صواب. والغريب أن من يُثبت إمكانية وجود الإمام المهدي المسيح؛ يعتمد على مسألة نزول عيسى في الموروث الإسلامي، وبعد استخدامها لإثبات بعث الإمام المهدي المسيح، يقومون بإثبات موت عيسى، وأنه لن ينزل في آخر الزمن.

والمقصود بهذه الأخبار هو الإمام المسيح الذي يخصهم، وذلك بقولهم : إن الذي سوف يُبعث ليس هو عيسى بشخصه، وإنما المقصود مثيله بالصفات؛ من حيث قيامه بعملية المسح للأرض، وإزالة الكفر، ونشر الإسلام !، ويقولون بنبوته دون رسالته، ويعدّونه تابعاً للرسول النبي محمد r مثل تابعية النبي هارون لأخيه الرسول النبي موسى.

ولا أدري ما فائدة هذا النبي مع كمال الدين وحفظ الرسالة، وإتمام النعمة ، ورضى الرب عن ذلك !، فإن كان لتدريس الدين، وتعليمه للناس، فهذا يحصل من خلال العلماء على كافة الاختصاصات، وما رأي هذا النبي المسيح؛ إلا رأياً خاصاً به، يخطئ ويصيب، والمعيار هو القرآن والعلم والمنفعة للناس، وإن كان لتجديد ما انقرض أو تحرف من الرسالة، فهذا أيضاً غير موجود لكمال الدين، وحفظ الرسالة، كما تعهد الله بذلك،{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً }النساء87 !، فلماذا نسميه نبياً أو مسيحاً ؟ وكيف نجعل الإيمان بنبوته ركن من أركان الإيمان رغم أن الله لم يطالبنا بالإيمان بالأنبياء، وإنما طالبنا بالإيمان بالرسل النبيّين(1)، انظر إلى قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة285

والرسل النبيّيون القادة هم أصحاب الكتب، فيجب الإيمان بهم، واحترام أتباعهم، والتعايش معهم، أما الأنبياء التابعة؛ فليس المطلوب الإيمان بهم، وذلك لعدم وجود رسالة عندهم، ونفي الإيمان بمعنى نفي الإتباع، وهذا شيء طبيعي لانتفاء وجود الرسالة، وانتفاء وجودهم الشخصي على قيد الحياة، ولكن نصدق بوجودهم لأن الله أخبر بقصصهم. فينبغي التفريق بالدلالة بين مفهوم الإيمان الذي يدل على التصديق والإتباع معاً، ومفهوم التصديق الذي يدل على مجرد القناعة والإقرار بصواب أمر، فالسؤال الذي يفرض ذاته هو: هل من يدَّعي النبوة يعتقد بوجود رسالة خاصة له !؟ فإن كان الجواب بالإيجاب؛ فقد كفى الله المؤمنين القتال، لأن الرسالة كاملة على ما هي عليه،  وبالتالي؛ أي رسالة أخرى بعدها هي كذب وافتراء على الله ، وصاحبها مُدَّعي للنبوة والرسالة. وإن كان مُدَّعي النبوة يقول : أنا نبي تابع للرسول محمد r، ولم ينزل عَلَيّ أي رسالة أبداً، يكون قد نفى عن نفسه حكم وجوب الإيمان به؛ لأنه ليس رسولاً نبياً قائداً، وانتقل إلى مسألة التصديق، أو التكذيب بنبوته، وسواء أكان يمكن أن يكون نبياً، أم لا، فالأمر لا يُقدم ولا يُؤخر، لأن المفهوم قد تفرغ من محتواه، وصار اسماً، وشكلاً دون مضمون، لعدم وجوب الإيمان به لانتفاء نزول رسالة عليه تكون محل الإتباع، ومثل ذلك كمثل مَن يُطالب بالإيمان بالرسول النبي هارون!؛ فكيف نصدق ونتبع النبي هارون؟ المطلوب هو التصديق، وليس الإتباع له. فدعوى وجوب الإيمان بإمامة ونبوة المسيح المهدي دعوى باطلة، فما بالك إذا كان ادعاء النبوة له باطلة أصلاً، وغير ممكنة لتناقضها مع صفة الخاتمَية، والخاتِمية للرسول النبي محمدr  الذي لا يحتاج إلى وزير نبي معه أو بعده.

ويوجد مسألة هامة أيضاً متعلقة بِنَسَب من يمكن أن يصطفيه الله لمقام النبوة، وهي أن يكون من ذرية نوح وإبراهيم، أو من ذرية أحدهما ضرورة .

 قال تعالى :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد26

أما ذكر كلمة النبيين في سياق الإيمان، نحو قوله تعالى : { وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }البقرة 177،  فهذا المقصود به مفهوم النبيين القادة ، لأن الإيمان موجه إلى الرسالة، وليس إلى شخص النبي، فالإيمان المطلوب هو التصديق و الإتباع لما نزل على النبي من أوامر وأحكام، فإن لم ينزل على النبي شيء، فكيف نؤمن به تصديقاً وإتباعاً !؟ وإن نزل عليه وحي تكليفي متعلق بسلوك الناس  صار رسولاً نبياً!. وقد يقول قائل : كيف طلب الله الإيمان بالنبيين من الأقوام السابقة، ولم ينزل عليهم رسالة، وإنما كانوا تابعين للرسول النبي السابق !؟ والجواب عن هذا؛ هو أن الرسالة لم تكتمل بعد، والمجتمعات الإنسانية لم تصل إلى بداية سن الرشد، فكان لابد من بعث النبيين للأخذ بيد الناس، وقيادتهم للوصول إلى بداية سن الرشد و النضج، أما بعد أن اكتملت الرسالة نزولاً – وهذا الحدث مؤشر على أن المجتمع الإنساني قد وصل إلى بدء سن الرشد- انتفت الحاجة والضرورة من استمرار الوصاية الإلهية عن طريق الأنبياء، فتم عملية ختم النبوة بالنبي محمد  بنوعيها القيادية والتابعية، غير أن الإيمان المطلوب هو موجه إلى الأنبياء الذين ذكرهم الله في القرآن، وبالتالي، فنحن غير ملزمين بأي نبي لم يرد اسمه في القرآن، ومن العدل أن لا يحاسب الله الإنسان على شيء لم يطلبه منه، أو لم يبينه في كتابه، وما ينبغي أن يُبنى هذا المفهوم على الظن والاجتهاد أبداً، فالأحاديث المنسوبة إلى النبي لا تصلح أن تكون برهاناً، وذلك لأمرين :

الأول: ظنية ثبوتها، والاختلاف في صوابها، ودلالتها .

الثاني: نفي عنها صفة الوحي، والحفظ الإلهي.

وخاصة أن الكتاب الإلهي قد اكتمل نزولاً، وجُعل النبي محمداً خاتِماً لما سبق، فصارت العلاقة بين صفة الكمال للدين ، والختم للنبيين جدلية، الكمال يقتضي الختم، والختم يلزم الكمال.

وعملية استمرار بعث الأنبياء مرتبطة بمفهوم كمال الرسالة، و وصول المجتمعات الإنسانية إلى بداية سن الرشد، فمن ثبت عنده ذلك،  يقتضي انتفاء بعث الأنبياء ضرورة، ومن يعتقد بعدم كمال الرسالة، وانتفاء وصول الإنسانية إلى بداية سن الرشد، يقتضي ذلك استمرار بعث الأنبياء ، أما الاعتقاد بكمال الرسالة، وإتمام النعمة، و رضى الرب، ووصول الناس إلى سن بداية الرشد ، واكتمال اللسان العربي، ومع ذلك تعتقد بإمكانية استمرار بعث الأنبياء، فهذا تناقض واضح وغير منطقي!،لأن الأمر يصير مثل بلوغ اليتامى بداية سن الرشد، والنضج، واكتمال التعاليم لهم، وقدرتهم على التعامل معها مباشرة،  ومع ذلك مستمرة عليهم صفة الوصاية !، لا يجتمعان أبداً، ولا تقبله المجتمعات الإنسانية، ولا يصح تسمية ذلك رحمة، أو احتراماً، أو محبة !، إنها الهيمنة والاستبداد، والحجر على العقول، واغتيال حق الآخر في عملية الإبداع، ونفي الاجتهاد والاختيار، وتعطيل وظيفة مقام الخلافة للإنسان.

نقاش وحوار

لقد قرأتُ بوعي ” مفهوم الخاتمية” عند الجماعة الأحمدية، فلاحظت أنهم تجاوزوا نقاش النص المركزي في الموضوع، وأخذوا يعرضون أدلة على إمكانية استمرار بعث الأنبياء، وذلك بسرد نصوص لا تدل بصورة قطعية على فكرتهم، وبالتالي لا يمكن أن يُحسم النقاش فيها ، وقياس الأمة الإسلامية على من سبق من الأمم قياس غير صواب، وذلك للفروق بينهم، التي منها :

1- خصوصية دعوة الأنبياء والرسل لأقوامهم ، بينما رسالة النبي محمد عالمية وإنسانية .

2-لم يتم إكمال الدين في بعث الأنبياء السابقين، بينما تم الإكمال للدين نزولاً في بعث النبي محمدr.

3- لم تتم النعمة على مَن سبق من الأقوام بينما تمت النعمة علينا.

4- ولنفي عملية الإكمال للدين في بعث الأنبياء سابقاً، ونفي إتمام النعمة، ولم  يحصل رضى الرب بعد ، لم يصرح الله  بصفة الخاتمية لهم، بينما عندما أكمل دينه ببعث النبي محمد، وأتم نعمته، ورضي الإسلام ديناً ، صرح بصفة الإكمال للدين ، ولشخص النبي بالخاتمية.

والأَولى أن يُناقشون مفهوم الخاتمية فقط المبني على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب، نتيجة إكمال اللسان العربي، ووصول الإنسانية إلى بدء سن الرشد. فإن استطاعوا أن يَنفوا تَضمن  دلالته على (الآخر) إضافة للدلالات الأخرى التي ذكرتها في مقالي، مثل المصداقية، والكمال، والاستمرار، يكونون قد أنهوا النقاش ، وأثبتوا فكرتهم ، وإن لم يستطيعوا ذلك ، تكون فكرتهم واهية.

وسأناقش مثلاً واحداً مما يعرضونه، وهو:

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }الأعراف 35

يقولون:( والخطاب في هذه الآية جاء بصيغة المضارع، التي تفيد الاستقبال، أي أنَّ الخطاب لبني آدم في المستقبل، والآية تطلب من هؤلاء أنْ يؤمنوا بالمرسَل إليهم منـهم. ولو فرضنا أنْ لا أحد سيأتي في هذه الأمة مبعوثًا من عند اللـه؛ لما كان لـهذه الآية أية فائدة، وحاشا للـه من ذلك).

– إن خطاب (يا بني آدم) شامل كل الناس إلى يوم القيامة كما ذكروا ، وهذا لا خلاف فيه، وكلمة (يأتينَّكم) فعل مضارع تفيد الاستمرار والمستقبل ، فأيضاً صواب لا غبار عليه، ولكن من أين أتوا بكلمة (مبعوثاً) في النص؟ والنص ذَكر كلمة (يأتينَّكم)! ودلالتها غير دلالة كلمة ( بعث)، وكذلك النص ذكر كلمة ( رُسل) ولم يذكر كلمة (نَبيّين)، ويوجد فرق بين دلالة الكلمتين كما ذَكرتُ سابقاً من حيث أن كل نبي رسول ضرورة ، والعكس غير صواب ، والنبوة مختومة بنوعيها( القائد والتابع) ببعث النبي محمد، بينما مقام الرسول مستمر إلى يوم الدين ضرورة لإقامة الحجة على الناس، لذلك أتى في النص كلمة    ( منكم) ولم تأت كلمة ( منّي)! مع غياب كلمة (بعث) المتعلقة بالنبيين، وإدخال النبيين في دلالة كلمة الرسل بحاجة إلى قرينة، والإيمان مطلوب بكل الرسل( النبيون خلال حياتهم)، ( و العلماء والدعاة والقادة الراشدون) وهذا يقتضي حياتهم لأن من المعلوم أن الطاعة متعلقة بحياة الآمر، ولا تكون الطاعة للأموات، وبالتالي يجب تصديقهم وإتباعهم فيما يأمرون من الحق والصواب وما ينفع الناس، وبالتالي ثبت أن النص له فائدة مستمرة، ولا علاقة له بمفهوم استمرار النبوة قط، وعلى أقل احتمال إن الدلالة لهذا المفهوم ظنية في النص، وإذا طَرأ الاحتمال بَطُل الاستدلال.

أما الشعر ، وتراث العرب ، وغير ذلك ، ليست أدلة أو براهيناً لإثبات مفهوم أو دلالة كلمة، وذلك لعدة اعتبارات :

1-لم يتعهد الله بحفظ الشعر، وتراث العرب من أن يصيبه التحريف أو الضياع.

2-إن استخدام الإنسان للألفاظ أيّ كان مستواه في اللسان العربي بلاغة أو فصاحة، لا يخلو من عجمة، وذلك لاتصافه بالمحدودية والقصور، فيستحيل أن يكون خطابه مطابقاً لمحله من الخطاب، ويصلح التعامل معه في كل زمان ومكان، لذا؛ لا يصح الاعتماد عليه، أو جعله برهاناً لدلالة كلمة معينة .

3-إن التراث كونه نتيجة تفاعل الإنسان المحدود في صفاته ، وحصول عملية التحريف فيه زيادة أو نقصاناً، بسبب الصراع السياسي، أو لنصرة الأفكار، نجد أنه قد احتوى الفكرة ونقيضها، فكل صاحب فكرة يستطيع أن يُدلل عليها من التراث .

انظروا إلى الأحاديث التي تنفي وجود بعث أي نبي بعد محمد r ؟ وأشهرها ( لا نبي بعدي) و على افتراض ضعف الرواية، أو الوضع لها؛ فهذا لا ينفي صحتها عند الآخرين، ونهاية القول؛ يكون كلامكم مقابل كلامهم، و لا يستطيع أي منكما أن يُقيم الحجة على الآخر، وليس لكما إلا الرجوع إلى القرآن فقط .

وبالنسبة لمفهوم ( الخاتمية ) أيضاً يكون فهمكم مقابل فهمهم، انظروا للأحاديث التي استخدمت كلمة      (ختم) كيف أتت تتضمن مفهوم الآخر ضرورة نحو (من قرأ خواتم سورة الكهف كفاه الله فتنة الدجال ) .

إن النص القرآني هو الوحيد الذي يُمثل أصالة اللسان العربي، وهو الوحيد الذي لا يوجد في صياغته عجمة، لذا؛ ينبغي حصر الاستدلال فيه من خلال دراسة استخدام الكلمة في النص كله، وفهم دلالتها من خلال إسقاطها على محلها من الخطاب، لارتباط النص بالواقع .

أما ما يتعلق بموضوع الأحاديث التي ذكرت المسيح أو المهدي ، فهي لا تصلح أن تكون برهاناً لإثبات مسألة على هذه الأهمية والعظمة ، فالأصل أن تَثبت هذه المسائل في النص القرآني ، غير أن هذه الأحاديث مُنتفي عنها صفة التواتر ، والتواتر ينبغي أن يكون ابتداء في المجتمع الأول الذي زامن الحدث، والتواتر لا يوجد له سند معروف، فإن وُجد له سند فهذا برهان على نفي التواتر عن الخبر، وكذلك لا يصح أن يأتي باحث في زمن لاحق يقول: اكتشفت أن هذه الأحاديث متواترة!، فهذا برهان على نفي التواتر عنها أصلاً، لأن التواتر للخبر يتواتر في المجتمعات المعنية به دون توقف أو انقطاع، وبالتالي من الخطأ استخدام هذه الأحاديث براهيناً أو أدلة، وينبغي حصر النقاش في النص القرآني فقط.مع العلم أن التواتر محصور بالأحداث فقط ، ولا يتناول الأقوال أو الأحاديث! راجع مقالي ( التواتر أداة معرفية ، لا أداة علمية)

ودمتم بخير

(1) كلمة الأنبياء جمع لمفردة نبيء،التي تدل على صفة مشبهة باسم الفاعل وهي لازمة، أما كلمة النبيّين فجمع لكلمة نبي، وهي اسم فاعل تفيد التعدي.