الفرق بين الخطاب الإلهي والخطاب الإنساني

يأخذ الخطاب صفة المتكلم ، فيوجد خطاب عالم، ويوجد خطاب إنسان عادي، ويوجد خطاب طفل، والجميع يستخدم الأصوات اللسانية ذاتها(الأبجدية)، ويركب منها كلمات ومن الكلمات يركب جمل، ومع ذلك نجد تفاوت كبير جداً في مستوى الصياغة اللسانية بينهم، ويرجع ذلك لتفاوت علمهم وتفكيرهم ورؤيتهم ، وهذا التفاوت يقتضي اختلاف في التعامل مع خطاباتهم ودراستها ، فلايصح دراسة نص صدر من طفل ونعطيه أبعاداً عميقة من المعاني والدلالات تفوق عقل الطفل وعلمه، وهذا يعني أننا نتعامل مع خطابات الناس على المعنى والمقصد وليس على المبنى و الصياغة لقصورها ضرورة ، ونتعامل ايضاً مع الخطاب وفق مستوى المتكلم العلمي حتى نستطيع أن نوسع الفهم والدراسة ونأخذ النص بجدية ودقة، ومع ذلك يبقى النص قاصراً للزوم صفة القصور والعجز والمحدودية للمتكلم في علمه وتعبيره لايستطيع أن يصيب الحقيقة كاملة أويعبر عنها بإحاطة زمكانية مستمرة .
أما الخطاب الإلهي الثابت قطعاً كمصدرية لله فيختلف التعامل معه لاختلاف صفات المتكلم من حيث العلم بكل شيء والقدرة على كل شيء وهذا يقتضي استخدام الأصوات اللسانية ذاتها التي يستخدمها الإنسان ويركب الكلمات منها ومن الكلمات يركب الجمل ولكن بصفة علمية و إحكام حيث يحمل المبنى الصوتي المعنى المقصود من قبل المتكلم لاينفك عنه ناهيك عن تصوير المعنى للحدث كما هو في الواقع بشكل حق وصدق لايوجد فيه مجاز ولااعتباط ويخضع لنظام منطقي في دراسته ،وهذا يقتضي أن نتعامل مع الخطاب الإلهي بداية من المبنى وندخل منه إلى المعنى وندرسه من خلال ربط الخطاب بمحله من الواقع وكل مبنى مقصود بذاته وإذا اختلف المبنى اختلف المعنى ضرورة للإحكام الذي قام عليه النص وإلا انتقض الخطاب الإلهي وصار خطاباً عبثيا اعتباطيا مثل خطاب الناس لبعضهم .
ومن جراء إختلاف المستوى العلمي بين المتكلمين في الاستخدام للأصوات وتركيب الكلام في الجمل والتعبير عن المقصد ظهر اختلاف في قواعد دراسة الخطابين، الخطاب الإنساني والخطاب الإلهي.
– الخطاب الإنساني يقوم على مجموعة من القواعد:
1- التعامل مع المعنى والتساهل بالمبنى.
2- يقوم على إحلال أي كلمة بدل أي كلمة لقصور المتكلم عن استحضار الكلمة المناسبة للتعبير عن المعنى والمقصد بشكل محكم وعلمي ،وهذا شائع باسم الترادف خطأً.
3- يقوم على المجاز وهو استخدام كلمات تعبيرية اصطلاحية لتدل على أمور أخرى لاعلاقة لها بالمعنى اللساني للكلمة ولاتدل على المعني بالكلام، وهذا يعني اعتباط في الاستخدام واصطلاح خاص بالمتكلم والمتلقي ونفي عن الخطاب صفة الحق والصدق.
وهذه القواعد المتعلقة بالخطاب الإنساني لايستثنى منها أحد ولا حتى النبيين!
– الخطاب الإلهي يقوم على مجموعة من القواعد:
1- إحكام المبنى لأنه يحمل المعنى، ولذلك لايوجد تساهل في المبنى أبداً وهو محفوظ من التحريف.
2- يقوم على قاعدة كونية علمية منطقية ( إذا اختلف المبنى اختلف المعنى) وهذا يقتضي إحكام النص منطقياً ولسانياً وواقعياً، واشتهر ذلك بنفي الترادف في القرءان خطأً نتيجة الخطأً السابق في خطاب الناس
3- يقوم على الحق والصدق في الخطاب لايوجد فيه كذب أو مبالغة أو عبث أو اعتباط في التعبير.
ولوجود الفرق بين قواعد الخطابين لايصح مقولة إن الخطاب الإلهي نزل بلغة الناس وينبغي أن نفهمه حسب قواعد خطاب الناس، فهذا عمل غوغائي وخطأ فاحش يصيب الخطاب الإلهي مقتلاً ويجعله خطابا اعتباطيا مجازيا قاصراً سطحياً ويفتح باب الجهل والتصور لكل من هب ودب أن يفهم حسب مزاجه ويبدل الكلمات محل بعضها، كما أنه لايصح دراسة خطاب الناس بقواعد الخطاب الإلهي، فلكل منهما قواعده في الدراسة .
وهذا يوصلنا إلى أن خطاب الناس الذين نزل عليهم القرءان ومنهم النبي نفسه هو لسان عربي كونهم يستخدمون الأصوات العربية ويخضعون نسبياً لقواعد منطقية تحكم خطابهم مثل نظام النحو، بينما الخطاب الإلهي نزل بلسان عربي مبين! خطاب علمي محكم منطقي كوني فلسفي ولم ينزل بلسان القوم إلا من حيث استخدام الأصوات العربية ولكنه استخدمها وفق مستوى المتكلم فظهر الفرق بين الخطابين ضرورة .
فمن يصر على جعل لسان القوم حكم ومعيار لفهم الخطاب الإلهي ينقض الخطاب الإلهي من أصله وينفي عنه الصلاحية والعلمية وصفة الحق والصدق ويجعله خطابا مثل خطاب البشر من حيث النتيجة ويصير مثله كمثل من يقول إنه خطاب بشري ومن تاليف النبي محمد وفق مستواه المعرفي ويُدرس تاريخيا حسب المستوى السائد حينئذ، وهذا ذات مفهوم السلفيين الذي يقول:( وجوب تقييد فهم الكتاب والسنة بفهم السلف) ويقصدون بالسلف مجتمع الصحابة فقط!!
فالأمر على درجة من الخطورة وهو أمر دقيق ومحكم وينبغي فهمه
للتوسع بالموضوع يرجى قراءة كتابي
علمية اللسان العربي وعالميته