التَّضادُّ في اللسان العربي المبين ظاهرة علمية

إنَّ ظاهرة التَّضادِّ في اللسان هي ظاهرة علميَّة انعكست من جرَّاء قيام الواقع على قانون الثنائية و الزّوجيَّة؛ قال تعالى: {وَمِن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} (الذّاريات 49) وظهرت حالة التَّضادِّ في اللسان بصُور: أحدها: أنْ يكمن الضِّدُّ في مقلوب الكَلمة ذاتها كَمبنى(1)، وهذه الصُّورة الضِّدِّيَّة هي حصراً متعلقة بظواهر الأشياء وصفاتها نحو : (در، رد)، ( لف، فل )، ( كتب، بتك )، (سد، دس )، (زل، لز).
وتحقَّقت هذه الظّاهرة، في كل الألفاظ المتعلقة بالظواهر والصفات فقط، واللسان العَرَبي قد احتوى في داخله مراحل تطوُّر اللسان، من خلال احتفاظه – إلى الآن – بالكَلمات البدائيَّة في الوُجُود، التي تعتمد على الثُّنائي من الأصوات والأحرف، وتطوَّرت إلى الثُّلاثي، فالرُّباعي، وعندما نزل القُرآن، استخدم من اللسان ألفاظاً، وكَلماتٍ، من كافَّة المراحل التي مرَّ بها اللسان، فقام – إلى حَدٍّ أساسي – في حفْظ اللسان العَرَبي، وربط فُرُوعه بأُصُوله.
وهذه بعض الكَلمات كمثال للدّلالة على وُجُود الضِّدِّ، وأنَّه كَامن في مقلوب اللّفظة كَمبنى؛ ولا ينطبق على هذه الحالة انتفاء الثالث المرفوع، لوجود حالة بينهما محل التقاء هي بين؛ بين؛ نحو: (كَتَبَ) ضدَّها مَبنى ومَعنى (بَتَكَ)، فالأُولى تدلُّ على الجَمْع، والأُخرى تدلُّ على التّفريق والقَطْع. (دَرَّ) ضدَّها مَبنى ومَعنى (رَدَّ)، فالأُولى تدلُّ على تولُّد الشّيء من الشّيء، والأُخرى تدلُّ على حَبْسه، وارتجاعه. (لَزَّ) ضدَّها مَبنى ومَعنى (زَلَّ)، فالأُولى تدلُّ على اللَّصْق، و الالتحام، والأُخرى تدلُّ على الابتعاد والافتراق. (قَلَعَ) ضدُّها مَبنى ومَعنى (عَلَقَ)، فالأُولى تدلُّ على الإزالة الشّديدة للشّيء، والأُخرى تدلُّ على مَسْك ولَصْق الشّيء بشدَّة. (فل ) ضدها مبنى ومعنى ( لف ) (سَبَحَ) ضدَّها مَبنى ومَعنى (حَبَسَ)، فالأُولى تدلُّ على الحَرَكَة المستقرة على تأرجح منضبط، والأُخرى تدلُّ على تأرجح منضبط مستقر على حركة حرة.
الحالة الثّانية: التَّضادُّ النقيضي الثقافي، وهي ظاهرة اجتماعيَّة ثقافية، متعلقة بالحكم على الأمور، وتكون بين شيئَيْن مُختلفَيْن في الواقع اختلافَ تضادٍّ تناقضي؛ ينطبق عليها الثالث المرفوع ( أي انتفاء حالة بين بين )(1) ؛ نحو:(العَدْلُ) ونقيضه (الظُّلم).(الخَيْرُ) ونقيضه (الشَّرُّ).(الإيمان) ونقيضه (الكُفْر).(السّلام) ونقيضه (الحرب).(الرّفق) ونقيضه (القسوة والشدة). الحالة الثّالثة: وهي وُجُود لفظة تدل على دلالة واحدة، تظهر في الواقع بصُورتَين مُتضادَّتين؛ نحو:(وراء) تظهر بصورة الأمام، والخلف.(خفي) تظهر بصورة السّتر، والظُّهُور.(عبد) تظهر بصورة الشِّدَّة، واللِّين.(قسط) تظهر بصورة العدل، والجور.(ظنَّ) تظهر بصورة اليقين، والشَّكِّ، أو بينهما.(عس) تظهر بصورة الإقبال، والإدبار. وهذه الحالة؛ هي محلُّ نقاش ودراسة بين عُلماء اللسان، فقد ذهب فريق منهم لإنكار هذه الظّاهرة، وفريق آخر أثبت هذه الظّاهرة.
وعند التّحقيق والدّراسة لكِلا الرّأيَيْن، يجد الباحث أنَّ الاختلاف بينهما يكاد أنْ يكون لفظيّاً واصطلاحيّاً، لأنَّ كُلاًّ من الفريقَيْن نَظَرَ إلى المسألة من جهة واحدة، وبناء على رُؤيته؛ قام بعمليَّة إنكار لهذه الظّاهرة، أو إثباتها. فمَنْ نَظَرَ إلى دلالة الكَلمة؛ من حيثُ أصل دلالتها، وبناءً على أنَّ لكُلِّ ظاهرة، أو حال كَلمة تدلُّ عليها، قالوا: إنَّه لا يُوجد للكَلمة الواحدة في اللسان العَرَبي- دلالتان مُتضادَّتان في الواقع، وقاموا بردِّ وتأويل كُلِّ الكَلمات التي جاء بها الفريق الآخر، الذي أثبت وُجُود التَّضادِّ. أمَّا الفريق الآخر الذي أثبت أنَّ للكَلمة الواحدة دلالتَيْن مُتضادَّتَيْن في الواقع؛ فلقد نَظَرَ إلى الكَلمة من حيثُ المآل والاستخدام، فشاهد أنَّ ظُهُورها في الواقع يكون بصُورتَيْن مُتضادَّتَيْن، فأثبت ظاهرة التَّضادِّ لهذه المجموعة من الكَلمات. ولنضرب على ذلك مثلاً؛ لتوضيح الرّأيَيْن: كَلمة (عبد). نَظَرَ الفريق الأوَّل إلى كَلمة (عبد)، فشاهد أنَّ دلالتها الأصليَّة واحدة؛ سواء تعلَّقت بالله، أم تعلَّقت بالشّيطان، فهي لم تخرج عن دلالة جَمْع شيء في داخل شيء بطريقة شديدة، وهذه الدّلالة تظهر ـ في الواقع ـ بصُور مُختلفة من صُورة عبد الرّحمن، إلى صُورة عبد الشّيطان، أو تعبيد الشّارع، ومن ثم؛ لا يُوجد تضادٌّ في اللسان من هذا الوجه. أمَّا الفريق الآخر؛ فقد نَظَرَ إلى الكَلمة؛ من حيثُ المآل وظُهُورها في الواقع، فشاهد أنَّ دلالة كَلمة (عبد) لا يُمكن تحقيقها في الواقع، إلاَّ من خلال التَّضادِّ؛ فعبد اللّه : أخذت معنى اللِّين والذُّلِّ والخُضُوع والطّاعة، وعبد الشّيطان أخذت معنى الشِّدَّة والتَّمرُّد والكُفْر، ومن ثم؛ فظاهرة التَّضادِّ موجودة في اللسان من هذا الوجه. ولنُحاول أنْ نُقرِّب وُجهات النَّظَر، ونُحدِّد الموضوع بدقَّة أكثر(1). إنَّ الأصل في اللسان، أنَّ لكُلِّ كَلمة دلالة واحدة، تظهر في الواقع بصُور وأشكال مُختلفة حسب استخدامها، وهذا الأصل هُو الدّائرة الكبيرة والأوسع في اللسان. ولكنَّ المُدقِّق في ألفاظ اللسان، يجد أنَّ هُناك مجموعة من الكَلمات ضمن الدّائرة الكبيرة، لها خاصِّيَّة عن سائر الألفاظ حين تشكُّلها، وظُهُورها في الواقع، فكَلمة (كَتَبَ) على سبيل المثال عندما يسمعها العَرَبي يستحضر في ذهنه، دلالتها على الجَمْع للشّيء المُتجانس في مكان واحد، وتظهر هذه العمليَّة بصُور مُختلفة، ومُتنوِّعة بشكل لا مُتناه، بخلاف عندما يسمع كَلمة (عَبَدَ)، فإنَّه يستحضر ـ مُباشرة ـ صُوراً ضدِّيَّة لمدلول كَلمة (عَبَدَ) عبد الرّحمن، أو عبد الشّيطان. إذاً؛ هُناك فرق كبير بين المجموعتَيْن من الكَلمات:
المجموعة الأُولى: التي هي الدّائرة الكبيرة والأوسع، تظهر صُور دلالتها بشكل مُختلف ومُتنوِّع حسب الواقع، ولنُطلق عليها (اختلاف تنوُّع).
المجموعة الثّانية: وهي دائرة ضمن الدّائرة الكبيرة الأساسيَّة، وهذا يعني تحقُّق مُواصفات الدّائرة الكبيرة في الدّائرة الصّغيرة، ولكنْ؛ مع وُجُود خاصِّيَّة لها، غير مُتحقِّقة في الدّائرة الكبيرة؛ ألا وهي ظُهُور وتشكُّل صور هذه الكَلمات في الواقع، بصُور ضدِّيَّة، ولنُطلق عليها (اختلاف تضادٍّ).
فالمُلاحظ أنَّ الفريقَيْن مُصيبان من حيثُ المضمون، فأحدهما نَظَرَ إلى الكَلمة مُجرَّدة عن الواقع، فنفى عنها صفة التَّضادِّ، وأثبت الدّلالة الواحدة لها ـ فقط ـ لساناً، أمَّا الآخر؛ فقد نَظَرَ إلى صُورة تحقُّق دلالة الكَلمة في الواقع، فلاحظ أنَّ لها صُورتَيْن مُتضادَّتَيْن، فأثبت ظاهرة التَّضادِّ.
لذا؛ ينبغي ضَبْط المُصطلح، وتحديده، فنقول:إنَّ ظاهرة التَّضادِّ موجودة بشكل صُوري، وليس دلاليَّاً؛ بمعنى أنَّ دلالة الكَلمة لها معنى واحد لساناً، وصُور مُتضادَّة في الواقع، وهذا بالنّسبة لمجموعة الكَلمات الموجودة في الدّائرة الصّغرى والدّاخليَّة بالنّسبة للدّائرة الكبيرة. وسنضرب أمثلة لتوضيح وتقريب ذلك، وإظهار كيف أنَّ هُناك في اللسان مجموعة من الكَلمات لكُلٍّ منها دلالة واحدة لسانياً وصُور ضدِّيَّة تظهر حين الاستخدام؛ نحو:(وراء، خفي، عبد، قسط، ظنَّ، عس)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع كتاب جَدَليَّة الحرف العَرَبي، مُحَمَّد عنبر، ط دار الفكر.
(1) وهذا خلاف ما ذهب إليه الأستاذ محمد عنبر في كتابه (جدلية الحرف العربي) عندما طبق قانون العلاقة الضدية للظواهر الطبيعية على العلاقة النقيضية الثنائية الفكرية، وخلط بين مفهوم الضد والنقيض،فالضد هو للظواهر الطبيعية فقط، ويمكن أن يلتقيا بنقطة واحدة مشتركة بينهما(بين بين) لز _ زل، در _ رد، وهي لحظة التحول، مثل تحول السخونة تدريجياً إلى البرودة، ويلتقيان بصفة الفتورة، بينما مفهوم النقيض خاص للفكر والحكم على الشيء، ولا يمكن للنقيضين أن يلتقيا، ويجري عليهما القول بالثالث المرفوع ( العدل والظلم، الحق والباطل)،وبالتالي لا معنى لنقد قواعد العقل عند أرسطو من قبل الأستاذ محمد عنبر.
(1) تم ضبط تعريف تضاد الكلمة من جراء حوار مع الأستاذ محمد هيثم إسلامبولي.