نظام الضمائر في القرءان وعائديتها

نظام الضمائر في القرءان وعائديتها اللسان العربي المبين هو نظام صوتي منطقي متعلق بالكون ومحكوم بقوانينه، وهذا يعني أن نتعامل معه مثل ما نتعامل مع أي علم آخر، فلا يوجد فيه تساهل أو مسايرة أو مجاملة كما هو معهود في خطاب الناس لبعضهم بعضاً باعتمادهم على فهم المتلقي للخطاب وحصول ذلك عنده، فيستخدمون أحرف العطف بدل بعضها بعضاً، أو يقولون: إن أحرف الجر تنوب عن بعضها، أو يستخدمون ضمير الجمع ويقصدون به المفرد…الخ، غير استخدامهم للكلمات محل بعضها دون مراعاة لاختلاف مفاهيم الكلمات عن بعضها، وكذلك التساهل في الخطاب واستخدام الاستعارة أو الكناية أو المواراة أو المصطلح أو محاولة تزويق الكلام وتجميله باستخدام كلمات تدل على جمال وقوة في الكلام أو صحة… الخ ، فيقولون للمريض مثلاً: هو بعافية، وذلك مراعاة لشعور المريض أو تمنياً له بالشفاء، وهذا الأسلوب معروف في كلام الناس باسم المجاز، وهو أسلوب خلاف الحقيقة له مسوغاته الثقافية بين الناس، ولا يمكن أن يستغنوا عنه في كلامهم أو في صياغة الشعر حتى قالوا: أجمل الشعر أكذبه، وما كان يعتمد على التصورات والتخيلات وابتعاده عن الحقيقة والمجسدات ، وكما هو ملاحظ إن كلام الناس متعلق فهمه بمعرفة مقصد المتكلم، ولا يمكن أن نتعامل مع المبنى اللساني بمعزل عن الذي صدر منه الكلام أو ثقافة البيئة التي قيل بها الكلام وتعلقه حينئذ ومستوى المتكلم العلمي والثقافي. وهذا يعني أن خطاب الناس فيما بينهم ليس خطاباً علمياً، ولا يمكن أن يخضع خطابهم لدراسة علمية ويستنبط منه قواعد لسانية، وذلك لقصورهم العلمي ، ومحدودية إدراكهم للواقع، وتساهلهم في الخطاب، فهم كثيراً ما يبنون كلامهم على ما هو شائع ومنتشر بين الناس حتى أنهم كرَّسوا مقولة: هكذا تكلم العرب وسمعنا نحن، فاللسان معظمه سماعي وليس عقلياً أو منطقياً، وغير ذلك مما يقتضي نفي الصفة العلمية عن استخدامهم للسان العربي في خطابهم كائن من كان المتكلم أو في أي عصر كان يعيش ، فلا يوجد كلام أحد حجة أو برهان على أحد، وذلك لأن المتكلم نفسه متصف بالقصور والمحدودية وهذا يعني أنه يستخدم الكلام بشكل نسبي وما يعبر به عن مقصده وشعوره ويضفيه على ألفاظه. فالخطاب الذي يصلح للدراسة اللسانية ويستنبط منه براهين وقواعد لسانية علمية هو الخطاب القرءاني فقط، أما خطاب الناس فيما بينهم فهو خطاب انفعالي محكوم بثقافتهم الزمانية والبيئية وقواعده اصطلاحية وليست علمية ولو اقتربت من العلم والواقع، وهو يصلح للدراسة النفسية والثقافية، فينبغي عدم الخلط أثناء الدراسة بين الخطابين، الخطاب الإلهي العلمي، والخطاب الإنساني الانفعالي الثقافي، فلكل منهما أسلوب في التعامل معه، فمثلاً من الخطأ أن نطبق قاعدة ( لازم الكلام لازم) وقاعدة( مفهوم المخالفة) على خطاب الناس وإلزامهم بما لم يقولوا أو يصرحوا به، وذلك لأن الناس لا تستحضر أثناء الكلام أبعاد كلامهم وما يلزم منه في الواقع أو مفهوم الضد من صياغتهم اللسانية، وإن طُبّق عليهم هذا حصل اختلاف كبير بين الناس ووقعوا بمشاكل عويصة وفقدوا قدرة التواصل والتفاهم مع بعضهم، ولذلك يقوم أهل القانون بصياغة مواد القانون بصيغة راقية وعالية وبدقة شديدة يتوخّون بها ضبط الكلام لحفظ حقوق الناس وعدم استغلال القانون من قبل أحد بشكل سيء من خلال صيغته اللسانية الاحتمالية وما تدل عليه. وهذا يوصلنا إلى التفريق بين أسلوب استخدام الضمائر في كل من الخطاب القرءاني العلمي، والخطاب الإنساني الانفعالي الثقافي. ولنأخذ مثلاً على ذلك استخدام ضمير الجمع في خطاب الناس الانفعالي الثقافي، وكيف يتساهلون به ويستخدمونه محل ضمير المفرد، فكثيراً ما نسمع في خطابنا المعيشي اليومي الناس تقول: جئنا لعندك ولم نجدك، وذهبنا إلى عند فلان، واشترينا كذا، ورأينا كذا… الخ، فإن أردنا أن نتعامل مع خطابهم بشكل منطقي وافتراض صدق المتكلم وصواب استخدامه للكلام نفهم منه أن الذي قام بالفعل هم جماعة وليس فرداً، ولو سألنا المتكلم عن مقصده لقال: أقصد أنا فقط وحدي من قام بالفعل، ولو سألناه لماذا تستخدم ضمير الجمع إذاً ؟ لقال لك: هذا تساهل في الخطاب فلا تدقق على لفظي وخذ مقصدي، ولو سألنا علماء النفس لماذا يستخدم الفرد ضمير الجمع في التكلم عن نفسه ؟ لقالوا: إن الفرد يحاول غالباً تشتيت السامع من التركيز على شخصه من خلال توسيع دائرة المتكلم أو الذي قام بالفعل.ولكن الغريب أن يأتي بعض الباحثين ليلاحظ استخدام ضمير الجمع من قبل الفرد ليدل عليه فقط فيبرر ذلك أنه للتعظيم والتفخيم، ويأتي بطريقة الملوك والرؤساء في الكلام بصيغة الجمع نحو قولهم: نحن حضرتنا قررنا ما يلي ، ليبني من كلامهم هذا قاعدة لسانية بجواز استخدام ضمير الجمع محل المفرد للتفخيم والتعظيم، مع العلم إن كلام الملوك والرؤساء ليس برهاناً بحد ذاته ولا قاعدة لسانية فهم من سائر الناس، وأصل استخدام ضمير الجمع من قبل الملوك والرؤساء هو ليدل على أن القرار صدر من الدولة أو المؤسسة وهو ناطق باسمها فيستخدم ضمير (نحن) ويقصد به الدولة أو المؤسسة ولا يقصد شخصه الفردي، وهذا لا ينقضه الاستبداد في الحكم والأثرة به واستمرار استخدام ضمير نحن للحاكم المستبد، فهو يقصد اندماج الدولة به فصار هو الدولة ذاتها ويستمر باستخدام ضمير (نحن) ليضفي على شخصه الشخصية الاعتبارية الجمعية، ويصير فوق النقد والنقض الشخصي، ويحيط نفسه بهالة قداسة الدولة ويتحرك في الحياة وبين الناس وكأنه الدولة ذاتها.وبهذه العقلية الانفعالية والثقافية أتى بعض الباحثين لدراسة الخطاب الإلهي فقالوا: إن ضمير الجمع في الصياغة القرءانية المتعلقة بسياق الخلق أو بالله هو من باب التفخيم أو التعظيم ولا يدل على الجمع قط، و بذلك العمل منهم نقضوا صفة المنطق عن الخطاب الإلهي، واتهموا المتكلم بالكذب، ونفوا عن كلامه صفة الصواب في الواقع. والسبب هو تطبيق أسلوب الخطاب الإنساني الانفعالي على الخطاب الإلهي العلمي، وفاتهم أن قمة التعظيم والتفخيم والقوة أن يستخدم المتكلم ضمير الفرد ليدل على نفسه هو لا غيره. لنقرأ الخطاب الإلهي (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طـه:14) ولم يأت الخطاب بصيغة الجمع ( إننا نحن الله لا إله إلا نحن…) إن كان الجمع للتفخيم والتعظيم فهذا الخطاب هو المناسب لذلك! ولنقرأ هذا الخطاب {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء87، فالمقام هو مقام تعظيم وتفخيم وتقديس وتنزيه فكان الأولى أن يأت بصيغة الجمع حسب قولهم ويصير الخطاب(… لا إله إلا أنتم سبحانكم…) بينما نلاحظ أنه أتى بالإفراد (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ). واضح من الخطاب أن الوحدانية والإفراد هو العظمة والتفخيم والشدة والقوة والكبرياء (أَنَا اللَّهُ ) ولم يقل (نحن الله)! و لو أتى ضمير (نحن) بدل ضمير (أنا)، لدل الكلام انطلاقاً من أن المتكلم صادق فيما يقول، وكلامه صواب ومنطقي مطابق لمحل الخطاب على ثلاثة احتمالات:
أ- المتكلم يمثل مجموعة يتكلم باسمها.
ب- المتكلم كاذب وهو يختبئ وراء الجمع ليخفي ضعفه ويشتت تركيز السامع ويتنصل من المسؤولية.
ت- المتكلم لا يعرف صياغة الكلام ودلالته ويستخدم الألفاظ بشكل اعتباطي.
فقمة التعظيم الإلهي هو إفراده بالوحدانية واستخدام ضمير المفرد سواء للمتكلم (أنا) ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) طـه:14، أو الغائب (هو) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الحشر23، ولم يأت ضمير(نحن أو هم ) قط في سياق التوحيد أو التعظيم أو التقديس لله، ونلاحظ أن استخدام الضمير في الخطاب الإلهي أتى منطقياً متماسكاً مع منطق الوجود، وصواباً في صياغته، وصادقاً في خبره، لنقرأ: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طـه:14){يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }النمل9{ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ }النحل2{وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }البقرة163{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى }طه8{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } الحشر23{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً }طه98{ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } القصص30 {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ص65{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ }فصلت6{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }ق29{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة160{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الحجر49{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }طه12{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }الأنبياء25{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء92{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }المجادلة21{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }المؤمنون52 ، الضمير هو الذي يأتي في سياق الكلام ليدل على متكلم أو مخاطب أو محل الخطاب سبق الكلام عنه فينوب عنه ويتعلق به. وهذه الضمائر محكومة بمنطق واقعي صادق وصواب، بمعنى أن المفرد بالواقع يقابله ضمير مفرد، والمثنى بالواقع يقابله ضمير مثنى، والجمع بالواقع يقابله ضمير جمع، وإن كان المتكلم يتكلم عن غيره فله ضمير خاص يدل عليه معروف باسم ضمير الغائب (هو)، وإن كان المتكلم يتكلم عن نفسه فله ضمير خاص يتعلق به يسمى ضمير المتكلم (أنا). هذه الأمور( المنطقية، والصدق، والصواب) ينبغي أن تكون ثابتة أثناء الدراسة لأي نص قرءاني، ولا يشذ عن هذا الكلام ولا أي نص سواء علمنا بمحل خطابه أم لم نعلم، ولا يصح جعل عدم علمنا بمحل الخطاب مبرراً لاختراق القواعد هذه ونقضها وافتراء مفهوم لا يدل عليه الخطاب الإلهي في الواقع. وبعد هذا العرض وصلنا إلى عائدية الضمائر، وهي جوهر البحث والتدبر للخطاب الإلهي ومعرفة المتحاورين، وأول شيء ينبغي أن ننفي صفة القاعدة عن المقولة التي تقول: (الضمير يرجع لأقرب مذكور قبله) فهذه المقولة ليست قاعدة وإنما هي على الغالب، وهي قاعدة في الخطاب الإنساني الانفعالي، لأنه لا يصح قطع الكلام بمعترضات ومن ثم العودة لمحل الكلام الأول بعد مضي زمن عليه، فهذا يسبب التباس في الفهم أو خطأ عند السامع ، بينما في الخطاب الإلهي يختلف التعامل معه، فهو يفهم وفق السياق والمنظومة العامة للقرءان محكوماً بالمنطق، وصواب الصيغة، وصدق الخبر، ولنأخذ مثلاً عملياً على سوء استخدام عائدية الضمير، والالتزام بمقولة (وجوب رجوع الضمير إلى أقرب مذكور قبله) كيف توصلنا إلى مفاهيم غير منطقية.
1- القول بنزول النبي عيسى في آخر الزمن فهماً من نص (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) 57 (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) 58 (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ) 59 (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (الزخرف:60) (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (الزخرف:61) فمن المقصود بضمير الهاء في جملة:(وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها) هل هو النبي عيسى أم القرءان؟معظم التفاسير نقلت عن بعضها تأثراً بحديث نزول عيسى فقالت:إن المقصود من النص هو النبي عيسى نفسه، ويوجد مفسرين نقلوا الرأيين، ويوجد من رجح إنه القرءان وليس النبي عيسى.
أ- تفسير القرطبي قوله تعالى: ” وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها ” قال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير: يريد القرآن، لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تُعلم الساعة وأهوالها وأحوالها. ب- تفسير التحرير والتنوير(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) الأظهر أن هذا عطف على جملة {وإنه لذكرٌ لك ولقومك} [ الزخرف: 44] ويكون ما بينهما مستطردات واعتراضاً اقتضته المناسبة.لمّا أشبع مقام إبطال إلهية غير الله بدلائل الوحدانية ثُني العِنان إلى إثبات أن القرآن حق، عوداً على بدْءٍ. وهذا كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المنكرين يوم البعث، ويجوز أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.وضمير المذكر الغائب في قوله: { وإنه لعلم للساعة } مراد به القرآن وبذلك فسَّرَهُ الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فيكون هذا ثناء ثامناً على القرآن، فالثناء على القرآن استمرّ متصلاً من أول السورة آخذاً بعضه بحُجز بعض متخلَّلاً بالمعترضات والمستطردات ومتخلصاً إلى هذا الثناء الأخير بأن القرآن أعلم الناس بوقوع الساعة.ويفسره ما تقدم من قوله: {بالذي أُوحي إليك} [ الزخرف: 43 ] ويبينه قوله بعده { هذا صراط مستقيم }، على أن ورود مثل هذا الضمير في القرآن مراداً به القرآن كثير معلوم من غير معاد فضلاً على وجود معاده.ومعنى تحقيق أن القرآن عِلْم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم. وهذا معنَى ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم « بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى مشيراً إليهما » والمشابهة في عدم الفصل بينهما.وإسناد {عِلمٌ للساعة} لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه. ويجوز أن يكون إطلاق العلم بمعنى المُعْلِم، من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل مبالغة في كونه محصلاً للعلم بالساعة إذ لم يقاربه في ذلك كتاب من كتب الأنبياء. لنطبق الشروط الثلاثة على الخطاب الإلهي( المنطقية، الصواب، الصدق) لمعرفة لمن يرجع هاء الضمير في (وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) الزخرف 61، وذلك من خلال دراسة النص وفق المنظومة العامة للقرءان وسياق الخطاب ومحله، نلاحظ أن النبي عيسى ليس علماً بحد ذاته بخلاف القرءان فهو علم، ونلاحظ أن النبي عيسى ليس هو الصراط المستقيم في جملة (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) واسم الإشارة متعلق بالعلم، والاتباع للرسول يكون اتباعاً لما أتى به وليس لشخصه، وإن رجعنا قليلاً لما قبل هذه الجملة لقرأنا قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) 43(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) الزخرف 44 فالصراط المستقيم هو ما أوحي إلى الرسول ذِكْراً له ولقومه الذي هو عِلْم للساعة ويجب اتباعه.
2- لمن يعود ضمير الهاء في كلمة{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }هود17 معظم التفاسير القديمة والحديثة قالوا في مفهوم (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ) أحد هذه الأقوال: هو الله ذاته، أو جبريل، أو لسان النبي، أو شخص النبي نفسه، أو مَلَك موكل بحفظ القرءان، أو الإنجيل، أو عبد الله بن سلام، أو علي بن أبي طالب، أو المؤمنون المتبعون للقرءان.وانفردت ثلاثة تفاسير بفهم أقرب لمفهوم النص وهي: أ- جاء في تفسير« البحر المديد في تفسير القرآن المجيد »للشيخ ابن عجيبة: […والحاصل: أن البينة أمر باطني، وهي: المعرفة، إما بالبرهان، أو بالعيان، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلِّ في محله، الباطن منور بالحقائق، والظاهر مُؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب]. ب- جاء في تفسير (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في الطبعة الأخيرة 1420 هـ: […ذكر تعالى، حال رسوله محمد r ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه، وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم، فقال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البينة.( وَيَتْلُوهُ) أي: يتلو هذه البينة والبرهان؛ برهان آخر (شَاهِدٌ مِنْهُ ) وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشَرَّعه، وعَلِمَ بعقله حُسنه، فازداد بذلك إيماناً إلى إيمانه]. ج- وجاء في (التفسير الكبير) للخليفة الثاني للجماعة الأحمدية “بشير الدين محمود أحمد”: […واعلموا أن الشهادة الذاتية الداخلية هي أفضل هذه الشهادات درجة وأهمية، لأنها تصلح للحاضر والمستقبل،كما أنها تغني عن البحث عن أدلة أخرى في الواقع].و قال:[… تأتي الشهادة بتأثيراته في المحل الثاني أهمية، لأنها ضرورية فيما بعد، ولولا هذه الشهادة لبقي صدقه أمراً مشتبهاً ومشكوكاً فيه بالنسبة للأجيال اللاحقة. ذلك إن كون الوحي في حد ذاته وحياً حقيقياً لا يكفي كحافز للناس على العمل به، بل إنه لابد من التدليل على أنه لا يزال صالحاً للعمل به ونافعاً في الوقت الحاضر أيضاً، وليس إنه كان مُجدياً في الماضي فقط، ولكنه فَقَد تأثيره اليوم وحل محله وحي سماوي آخر نسخه وألغاه. فإذا ظهرت عليه ثمار جديدة تأكد لنا أنه لا يزال نافعاً لأهل هذا العصر الحاضر كما كان نافعاً للذين كانوا من قبل.أما شهادة الأنباء السابقة فتأتي في الدرجة الثالثة، وإن كانت تشكل دليلاً هاماً للغاية، إذ لا تنفك تمهد لعقول الناس في كل عصر كي يؤمنوا بالحق عند نزوله، غير أنها لا تنفع إلا الذين تنكشف الحقيقة في زمانهم. لقد ساق الله هنا على صدق القرءان هذه الأدلة بأنواعها الثلاثة، فقال: إنه يحمل في نفسه الشهادة الداخلية على صدقه، كما أن أنباء الكتب السماوية السابقة أيضاً تتضافر على صدقه، ثم إنه يؤتي أُكله كل حين بإذن ربه في المستقبل بحيث لن يسع الناس إنكاره وتكذيبه في الواقع. والدليل الأول جاء في قوله تعالى:( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) أي أن القرءان الكريم أو الرسول الكريم الذي جاء به يحمل في نفسه أدلة ذاتية داخلية تؤكد بشكل حاسم أنه من عند الله تعالى.]. انتهى
والصواب هو أن الشاهد موجود في بنية القرءان ذاته من خلال مطابقته للآفاق والأنفس، وهو شاهد عِلْم يتلوه.
وعودة لاستخدام ضمير الجمع في الخطاب الإلهي ولنأخذ أمثلة عملية عليه:1- (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) كلمة ( ذكر) عامة تشمل القرءان وغيره، والذي نزل بالقرءان على النبي محمد في الواقع هو جبريل وليس الله، وساهم في صياغته مجموعة من الملأ الأعلى كما هو ملاحظ من حوارات القرءان وصياغة الخطاب، والذي أمر بإنزاله هو الله، فمن الطبيعي أن يأتي ضمير الجمع ( إنا نحن) وهذا صواب في الصياغة وصدق في الخبر من حيث الواقع الذي حصل. وجملة (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) متعلقة بالله وجبريل والملائكة وتعلق الخطاب القرءاني بالكون من حيث انسجامه مع السنن والأنفع للناس وتماسكه المنطقي، وتعلقه بالمؤمنين الذين يحفظون الخطاب القرءاني في صدورهم وينقلونه تواتراً إلى من بعدهم.2- {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }الإنسان2 ضمير(إِنَّا خَلَقْنَا) يدل على الجمع والخبر صادق، والصياغة صواب ، ومنطقية الخبر قائمة من حيث أن الخلق متعلق بالسنن والملائكة المكلفين بتسيير ذلك والإشراف على عملية الخلق بإذن الله. ومثله هذه النصوص:- {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً }الإنسان28 {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً }النبأ8- {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4- {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً }مريم 73 6- (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (الزمر:42) (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11) فالواقع أن الله لا يباشر فعل التوفي للنفوس بنفسه، وإنما من خلال أمر ملك الموت بتوفي النفوس الذي بدوره معه مجموعة من الملائكة مكلفين بذلك {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }النحل284- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }ق16 فضمائر الجمع في النص واضحة وتفهم من خلال إسقاطها على محلها من الواقع ليصير الخبر صادق وصواب ومنطقي، خلقنا، ونعلم، ونحن، كلها تدل بداية على الله ومن ثم من ينفذ أمره من الملائكة في الواقع.5- {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } الواقعة64 فالنبات من المعروف أن الإنسان يزرعه في التربة ولكن ليس هو الذي يجعله ينمو ويكبر ويثمر، وإنما عوامل كثيرة مع بعضها تتضافر لنمو النبات وهي تمثل سنن الله في الزراعة.6- {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }فاطر9 لاحظوا فعل ( أرسل) أتى ليدل على أن الذي قام به هو واحد وهو الله، بينما أتى فعل ( فسقناه) وفعل ( فأحيينا) بصيغة الجمع ليدل على وجود أطراف أخرى هي التي تباشر تنفيذ أمر الله في الواقع.7- {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }الكهف65كلمة (رب) في القرءان تعني التدبير والإدارة ، وتطلق على كل من يقوم بالتدبير والإدارة سواء الخالق أو من المخلوقين، نحو رب المال ورب العمل ورب الإبل …الخ، وهؤلاء الأرباب هم كائنات مخلوقة لله وخاضعة لأمره، وعبادتهم هي الخضوع لأمرهم وليس عبادة التعظيم والشعائر، ومن هذا الوجه تأتي كلمة عباد مضافة للجمع (عباد لنا). والقرءان لم يغط موضوع الأرباب مثل الملائكة والناس، وإنما ذكرهم من خلال استخدام الضمائر، وعلاقتنا معهم علاقة ربوبية وليست إلهية، أي علاقة خضوع وليس علاقة تعبدية وتعظيم ودعاء.8- {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً }الكهف80كلمة (فخشينا) يدخل بها العبد الصالح ومن هم أعلى منه من الأرباب لعلق الأمر بزهق حياة إنسان وعلم الغيب وهذا ليس تحت متناول العبد الصالح، بينما نجد في فعل خرق السفينة أرجع العبد الصالح الإرادة لنفسه فقط: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }الكهف79، فنسب إرادة الفعل له وحده وليس للجماعة. وهذه النصوص هي نماذج وليست للحصر والقارئ الحصيف والباحث النحرير يدرك تعلق الضمائر وعائديتها في الخطاب الإلهي من خلال منطقية الخطاب واقعياً، وصدق المتكلم، وصواب الخبر، مع نفي شرطية تعلق الضمير بأقرب مذكور قبله، وعدم الخلط في نوعية الضمائر فما هو مفرد يكون للمفرد، والمثنى للمثنى، والجمع للجمع، والغائب للغائب، والحاضر للحاضر، والمتكلم يستخدم ضمير ( أنا) ، والآخر عندما يريد أن يتكلم عن غيره يستخدم ضمير الغائب ( هو) أو ضمير الخطاب ( أنت) ، و يمكن أن يأتي في نص واحد عدة صيغ من الضمائر بمعنى أن يبدأ النص بالمتكلم المفرد وينتقل إلى الجمع ويعود للمفرد، والقارئ أو السامع للخطاب يدرك الحدث كيف حصل من خلال فهم الضمائر وتعلقها بأصحابها، نحو مقولة: أتينا لعندك وطرقت الباب، ودخلنا إلى غرفة الجلوس وجلست بقرب المدفأة و من ثم قمنا إلى الطعام، وانصرفت بعد ذلك فاجتمعت مع صاحبي في الطريق وذهبنا إلى البيت ودخلت إليه وجلسنا جميعاً في الحديقة.