{قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ }الزخرف81

دلالة كَلمة (عبد).
إنَّ كَلمة (عبد) كأخواتها قد عُدَّت من كَلمات التَّضادِّ، فذكر صاحب مقاييس اللُّغة كَلمة (عبد)، فقال: العين والباء والدّال أصلان صحيحان كأنَّهما مُتضادَّان، الأوَّل يدلُّ على لين وذُلٍّ، والآخر يدلُّ على شدَّةٍ وغلظ. إنَّ كَلمة (عبد) تبدأ بحرف العين والباء (عب)، اللّذان يدلاَّن في اجتماعهما، على كثرة ومُعظم يُجمع في شيء آخر، وضدَّ كَلمة (عب) مَبنى ومَعنى، هُو كَلمة (بع) التي تدلُّ على خُرُوج بكثرة ومُعظم وجَمْع. فإذا أضفنا حرف (الدّال) لكلَيْهما، فإنَّ دلالتهما الأصليَّة لا تتغيَّر، وإنَّما يتمُّ إضافة شكلٍ، وتحديد لظُهُور المعنى لهما في الواقع. بعد: (بع) كَلمة تدلُّ على خُرُوج بكثرة ومُعظم وجَمْع، وجاء حرف (الدّال) ليُعطيها دلالة الدفع الشديد؛ لتصير خُرُوجاً شديداً، يُقابل الخُرُوج القريب. عبد: (عب) كَلمة تدلُّ على كثرة ومُعظم يُجمع في شيء آخر، وجاء حرف الدّال ليُعطيها دلالة الدفع الشديد؛ لتصير تدلُّ على كثرة ومُعظم يُجمع في شيء آخر، بشكل مُعيَّن ومُحدَّد؛ نتيجة الشِّدَّة التي مُورست على طريقة الجَمْع. وما ذَكَرَهُ صاحب مقاييس اللُّغة من دلالة التَّضادِّ لكَلمة (عبد)، إنَّما أتى له من جرَّاء مُلاحظة دلالة كَلمة (عبد) في الواقع، فتارةً تأخذ شكل الذُّلِّ، واللِّين المُتحقِّق بالعبد المملوك والطّريق الموطوء، وتارةً تأخذ شكل الشِّدَّة، والغلظة المُتحقِّق بتمرُّد الإنسان، وكُفْره ومُحاربته للحقِّ والخير. فهاتان الصُّورتان (الشِّدَّة واللِّين) ليستا هُما مفهوم كَلمة (عبد)، وإنَّما هُما صُورتان تحقَّق بهما دلالة كَلمة (عبد) في الواقع. إذاً؛ كَلمة (عبد) عندما نستخدمها للإنسان تدلُّ على جَمْع وتشكيل مفاهيم مُعيَّنة بداخل الإنسان؛ حيثُ تصير طاقةً له، يُكيِّف سُلُوكه بحسبها، فإنْ كانت مفاهيمَ قائمةً على الحقِّ والعدل والخير؛ كان الإنسان ليِّناً مُطيعاً للحقِّ، خاضعاً له، وإنْ كانت مفاهيمَ قائمة على الباطل والشَّرِّ؛ كان الإنسان شديداً كافراً بالحقِّ، مُتمرِّداً عليه. فقولنا: الشّارع مُعبَّد؛ أخذ دلالة تجميعه وتشكيله، بشكل مُذلّل يصلح للوطء والسّير دُون مشقَّة أو تعب. وقولنا: الإنسان عبد اللّه؛ أخذ دلالة تجميع إرادته وتشكيلها بشكل الإيمان بالحقِّ، والخُضُوع له.وبعد ذلك؛ نقوم بتفسير قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَـَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف (81 أيْ لو كان للرّحمن صفة الولادة، ومن ثم؛ له ولد، فأنا أوَّل مَنْ أُجمع إرادتي وأُشكِّلها على الرّفض، والاستنكار، والكُفْر، بهذا المدَّعي للأُلُوهيَّة؛ لأنَّه ما ينبغي للرّحمن أنْ يكون له ولد؛ لأنَّ الصّفة اللاَّزمة للرّحمن أنْ يكون أحداً صمداً؛ قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمَـَنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً} (مريم 92). وقال: {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ*اللّهُ الصّمَدُ} (الإخلاص1 ـ 2). ويمكن أنْ تأتي كَلمة (العبادة) دُون تحديد لإحدى صُورها، ومن ثم؛ تبقى على عُمُوميتها تشمل الصُّورتَيْن الضِّدِّيَّة معاً، في وقت واحد؛ نحو قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذّاريات 56). إنَّ هذا النَّصَّ من النّوع الإخباري، ومن ثم؛ فالمصداقيَّة له في الواقع ضرورة علميَّة وإيمانيَّة، والواقع المُشاهَد، يدلُّ على أنَّ النّاس يُمارسون الحُرِّيَّة التَّامَّة، في عمليَّة الإيمان أو الكُفْر، عبادة الرّحمن، أو عبادة الشّيطان، وقد أخبر اللّه U نفسه أنَّه خَلَقَ الموت، والحياة، لحُصُول عمليَّة الابتلاء للإنسان في الحياة الدُّنيا؛ إذْ قال: {الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك 2).فدلالة كَلمة{ لِيَعْبُدُونِ}في النَّصِّ السّابق، لم يُحدِّدها اللّه بصُورة دُون أُخرى كما فعل في آيات أُخرى؛ نحو: { قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ } (الأعراف73)، ممَّا يدلُّ على أنَّ مقصد اللّه U من النَّصِّ هُو وَصْف واقع الإنسان في عمليَّة الاختيار لإحدى الصُّورتَيْن الضِّدِّيَّة، فإمَّا أنْ يكون الإنسان عبداً للرّحمن، أو أنْ يكون عبداً للشّيطان، فالنَّصُّ هُو خبر يُؤكِّد حُرِّيَّة الإنسان في العبادة، ولمَنْ يُوجِّهها، والحُرِّيَّة يترتَّب عليها المسؤوليَّة والحساب(1). قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ} (الصّافات 24). وقال: {فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الحجر92 ـ 93).
(1) راجع كتابي ( الألوهية والحاكمية ).