أسلوب الرمز في القرءان عام أم خاص
شاع في الآونة الأخيرة فكرة إن الخطاب القرءاني كله رمزي وذهب بعض الأخوة في دراسة النصوص بهذا الشكل متجاوزين المعنى الحقيقي وتعلق الخطاب بالواقع إلى مفاهيم رمزية ،وفرَّغوا الخطاب من محتواه التكليفي، فهل فعلاً الخطاب القرءاني كله خطاب رمزي وهو المستوى المطلوب الوصول إليه بالدراسة و التدبر؟
رمز: كلمة تدل على اجتماع شيء متصلاً ببروز بشيء آخر، وثقافياً هو استخدام كلام معين ليدل على مجموعة من المعاني اللازمة لها منطقياً وليس لسانياً، مثل لزوم الحياة للماء، فالماء رمز للحياة، وهذا ليس معنى لساني لكلمة الماء وإنما مفهوم منطقي نصل إليه من خلال تجاوز المعنى اللساني إلى متعلقاته بالواقع، والمتعلق بالماء لزوماً هو الحياة، فيكون المفهوم الرمزي للماء هو الحياة ، وكما نلاحظ أن المفهوم الرمزي من حيث المآل لا يخرج عن الحقيقة أيضاً والواقع، بل؛ لابد له من واقع موجود حقيقي يتم تعلق الكلام الرمزي به.
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }آل عمران41، فالنص يدل صراحة على أن الرمز هو أسلوب من أساليب الكلام المختصر العميق المعنى ويحتاج إلى تدبر وتجاوز المبنى اللساني ومعناه الحرفي إلى مفهوم مقصدي لازم يتعلق بالمبنى والمعنى اللساني بشكل منطقي مثل تعلق الحياة بالماء.
والأسلوب الرمزي في الخطاب كما هو ملاحظ متعدد الفهم وغير محكم لاحتمالية تعلقه بأكثر من شيء في الواقع فهو نص متشابه وليس نصاً محكماً، وهذا يعني أن الخطاب التشريعي مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء23، ونص الوصايا العشرة، و الخطاب الإيماني المتعلق بوحدانية الله، مثل: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }البقرة255، لا يمكن أن يأتيا بأسلوب الكلام الرمزي لأن الخطاب التشريعي هو خطاب تكليفي يتعلق بتنظيم سلوك الناس والحرام والحلال والواجب، والخطاب المتعلق بوحدانية الله يتعلق بالحق والباطل، ويترتب عليه الحساب والمسؤولية، وهذا لابد له من خطاب محكم واضح محدد، وهذا مقتضى الحكمة و الرحمة، ولو أتى بأسلوب الكلام الرمزي لبطل الثواب و العقاب، وضاع الحق واختلط بالباطل، وانتفى الحساب لاحتمالية النص لأكثر من مفهوم ممكن تعلقه بالواقع، ولو تعلق به الحساب والتكليف لانتفى عن المشرع الحكمة و الرحمة وصار الفعل عبثاً وظلماً، وصار الخطاب متميعاً وممكن يدل على كل شيء في كل زمن وانتفى عنه المفهوم الثابت، وصار متحركاً نسبياً يصلح لتحميله أي مفهوم ولا يدل على أي مفهوم بعينه ، وحقيقة هذا الأسلوب هو نقض للخطاب القرءاني التشريعي والخطاب الإيماني.
إذاً؛ أين الخطاب القرءاني الرمزي في القرءان؟
بعد أن استثنينا الخطاب التشريعي والخطاب الإيماني من أسلوب الرمز نصل إلى أن أسلوب الكلام الرمزي ممكن أن يأت بالنصوص القصصية وهي مادة كبيرة في القرءان ولا تتعلق بأحكام تشريعية ولابنصوص إيمانية متعلقة بوحدانية الله، ورغم أنها ممكن تنفهم بشكل رمزي وهو بُعد في مفهوم النص وتدبره ولكن لا ننفي عنها المعنى اللساني، وهي تقبل التعدد في الأفهام لأنها من النصوص المتشابهة ولا يترتب عليها محاسبة لعدم تعلقها بحقوق الناس كدماء وأعراض وأموال…الخ، ولا تتعلق بحق أو باطل.
ونجد أيضاً أن أسلوب الرمز يتعلق بنصوص الرؤيا والمنام، بل؛ لا يمكن أن نتدبر نصوص الرؤيا أو المنام إلا بأسلوب الرمز وتجاوز المعنى اللساني الظاهري للرؤيا ، اقرؤوا: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف43، لو حاولنا أن نفهم هذا النص المتعلق بالرؤيا لسانياً على ظاهره لما استطعنا فهمه أبداً، وهذا يدل على أن هذه النصوص متشابهة ومتعددة المفهوم ولا تُدرس أو تُفهم إلا بأسلوب الرمز حصراً.
ونجد أيضاً أن أسلوب الرمز في الكلام يتعلق بنصوص علمية كونية وهي نصوص متشابهة متعددة الأفهام نسبية الحركة حسب المستوى العلمي والمعرفي والأدواتي للناس، ومجيئها بأسلوب الرمز لاينفي حقيقة المفهوم اللساني عنها.
إذاً؛ الخطاب التشريعي والخطاب الإيماني من النوع المحكم في الخطاب ولا يصح دراستهما بأسلوب الرمز قط، ولا ينطبق عليهما قاعدة (ثبات المبنى والمفهوم وتحرك المعنى و المحتوى)، بخلاف الخطاب القرءاني المتعلق بالقصص والرؤيا المنامية والعلمية الكونية فهم من النوع المتشابه مع وجود نصوص محكمة بالمفهوم والمعنى تكون محوراً ثابتاً يُستخدم في دراسة النصوص المتشابهة النسبية، وممكن أن نطبق عليهم أسلوب الرمز الكلامي أثناء دراستهم.
لذا؛ ينبغي على الأخوة الذين يعتمدون على أسلوب الرمز في دراسة الخطاب القرءاني كله أن ينتبهوا إلى هذه القواعد ويميزوا بين الخطاب الذي يمكن أن يُدرس رمزاً، والخطاب الذي لا يصح دراسته رمزاً.
اضف تعليقا