جواز غسل القدَمَيْن، أو مسحهما في الوضوء

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }المائدة6
أتت تلاوة نصب كلمة (أرجلَكم) في أربع تلاوات، وهي: تلاوة نافع، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب.وأتت في جر( أرجلِكم) ستّ تلاوات؛ وهي: تلاوة ابن كثير الدمشقي، وحمزة بن حبيب، وأبي عمرو بن العلاء، وأبي جعفر يزيد، والكسائي، وخلف بن هشام، وكلّها تلاوات متواترة، ومتداولة في العالم الإسلامي.
واختلاف التلاوات للنصّ القرآني هو اختلاف تنوُّع، لا اختلاف تضادّ، وكلّ تلاوة متضمّنة دلالة التلاوة الأخرى، ولذلك؛ كانت التلاوة الواحدة جامعة مانعة كاملة ، والحِفْظ لأحدها – في الواقع – كافٍ، وهذا الاختلاف في التلاوات لا يُؤثّر على الأحكام أبداً، فالحرام حرام في كلّ التلاوات، وكذلك الحلال حلال في كلّ التلاوات، والواجب ؛واجب في كلّ التلاوات، إذاً؛ التنوُّع والتغيُّر في التلاوات إنما هو من باب تسليط الضوء في تلاوة على جانب من الأمر بصورة واضحة، وترك الجانب الآخر في ظلّ النصّ، يُدركه الباحث إذا تعمَّق في دراسة النصّ كاملاً، وتأتي التلاوة الأخرى، فتُسلِّط الضوء على جانب آخر من الأمر ذاته، وترك جانب في ظلّ دلالة النصّ يُدركه الباحث إن تعمّق في دراسة النصّ.
فَجَمْع التلاوات مع بعضها يُسهِّل على الباحث الرؤية لكامل دلالة النصّ، بينما، دراسة الأمر في نصٍّ من تلاوة واحدة يتطلَّب من الباحث جهداً، يبذله للوصول إلى عمق دلالة النصّ، ويعلم الأمر الذي في ظلّ النصّ، ليضيفه إلى الأمر الذي تحت الضوء، فتكتمل عنده الرؤية لكامل دلالة النصّ.
لنرَ ذلك من خلال فقه نصّ الوضوء بالتلاوتين (النصب والجر)، فتلاوة النصب لكلمة (أرجلَكم) واضحة في عطفها على كلمة (وأيديكم)، وبالتالي؛ تأخذ حُكْمها من حيث الغسل ضرورة، أمَّا تلاوة الجر (أرجلكم)، فهي معطوفة على كلمة (برؤوسكم) وبالتالي، تأخذ حُكْمه ضرورة، فغسل أو مسح القدَمَيْن في الوضوء ثابت في التلاوتين، كما ذكرنا آنفاً، ولا يصحّ إنكار فريق على آخر فيما أراد أن يُلزم نفسه به، فالأمر على الخيار، وينبغي العلم أن الوضوء للصلاة، هو أمر تعبُّدي بالدرجة الأولى، وليس أمراً للنظافة، ولو أن ذلك من مقاصد الشارع، أمَّا مسألة تحديد قدر الغسل أو المسح للقدَمَيْن، فقد أتى ذلك صراحة في النصّ (وأرجلكم إلى الكعبين) والكعب كلمة تُطلق على كلّ شيء يتجمَّع على ذاته، ومن هذا الوجه سُمِّيَتْ الكعبة كعبة، وكذلك المُكعَّب، وغيره، فالكَعْب في القَدَم هو مكان التقاء مشط القدم بعظمة الساق، ويُطلَق على العظمتَيْن الناتئتَيْن من جانب القَدَم (مقاييس اللغة) ابن فارس، أو على العظم الناشز فوق القَدَم (القاموس المحيط)، وبناء على ذلك، يكون حدُّ الغسل أو المسح ينتهي إلى الكعبَيْن، أمَّا التجمُّع في آخر أسفل مشط القَدَم فاسمه (عقب)، وليس كعباً.
ولنرَ – الآن – كيف أن كلّ تلاوة مُتضمّنة دلالة الأخرى، فكلمة (أرجلكم) بالنصب تدلّ على أمرَيْن؛ وهما:
الأول: بما أن كلمة (أرجلكم) أتت منصوبة بعد الأمر الأول،( فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) ممَّا يدلّ على أن كلمة (أرجلَكم) معطوفة على كلمة(بأيديكم) لاشتراكهما بالصياغة والتحديد والنصب، وبالتالي؛ تأخذ الأرجل حُكْم الأيدي، من حيث الغسل لكلَيْهما، ويكون الضوء مُسلَّطاً على غسل الأرجل.
الثاني: بما أن كلمة (أرجلكم) أتت معطوفة على مسح الرؤوس من حيث ترتيب الجملة، دلَّ ذلك ضرورة على أن حُكْمها حُكْم المعطوف عليه من حيثُ المسح، ويكون حُكْم المسح في ظلّ النصّ. فنلاحظ أن تلاوة النصب لكلمة(أرجلكم) دلَّت على جواز الغسل، أو المسح بالوقت ذاته، والأمر متروك للخيار، ونلاحظ من تلك الدراسة للنصّ من عدة جوانب أن التلاوة الواحدة مُتضمّنة دلالة التلاوة الأخرى، ومستغنية عنها، وكلّ واحدة منهما كافية شافية ولنَر ذلك بتلاوة الجر لكلمة (أرجلِكم).
عندما نقرأ كلمة ( أرجلِكم) بالجرّ، فهي معطوفة على كلمة (برؤوسِكم)، وبالتالي؛ تأخذ حُكْم المسح ضرورة، ويكون الضوء مسلَّطاً على حُكْم المسح. أمَّا الحُكْم الآخر (الغسل)؛ فهو في ظلّ النصّ، دلّ عليه إتيان جملة (وأرجلكم إلى الكعبين) بصياغة محدّدة على نمط جملة (وأيديكم إلى المرافق )، وبالتالي؛ تأخذ حُكْم الغسل؛ للاشتراك بينهما في التحديد، والنمط، والنوع، من كونهما أطراف عملية أدواتية، بينما نلاحظ أن جملة ( وامسحوا برؤوسكم) غير محدّدة، ممَّا يدلّ على إطلاق عملية المسح، مع صحّة المسح لبعض الرأس، مثل قوله تعالى { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }النساء43
وتكون تلاوة الجرّ كلمة (أرجلِكم) كافية، شافية، مستغنية عن غيرها من التلاوات، وهكذا دواليك، والحفظ للنصّ القرآني يتحقّق بحِفْظ تلاوة واحدة حدّاً أدنى، فما بالك إذا كانت التلاوات العشر متواترة، وكلّ واحدة منهنَّ كافية شافية.
لذا؛ ينبغي أن نحترم خيار الآخر المختلف عنّا مهما كان اختياره، مادام أن الأمر يتَّسع، والاختلاف في حقل التنوَّع، وليس في التناقض (الحرام والحلال)، والتناحر والكُره يأتيان من انعدام العلم، والانغلاق على ما بأنفسنا.
وكم من عائب قولاً صحيحاً……….وآفته من الفَهْم السقيم!!
{ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }النساء43
إنَّ فعل (لمس) يدلُّ على حدوثه من فاعل واحد، قام به من جهة واحدة؛ نحو قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }الأنعام7
فعملية اللَّمْس صدرت من الناس للكتاب، ولم يصدر عن الكتاب عملية لمس لهم، بينما فعل (لامس) هو فعل يدلّ على حدوث مشترك بين فاعلَيْن لفعل واحد، نحو قولنا: لَكَمَ زيدٌ عمراً، نفهم أن فعل اللَّكْم صدر من زيد فقط، ووقع اللَّكْم على عَمرو، أمَّا إن قلنا: لاكَمَ زيدٌ عمراً؛ فنفهم أن فعل اللَّكْم كان بينهما مشتركا لكلَيْهما معاً، فكُلّ منهما يلكم صاحبه، انظر إلى: آكَل، دارسَ، لاعَب…
قال تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }النساء43 ،فعملية اللَّمْس مشتركة بين الرجال والنساء، على حدّ سواء، فكلاهما قام بلَمْس الآخر، وهذا اللمس ليس مجرّد وَضْع كَفّ اليد على جسم الآخر، فهذه العملية تُسمَّى لمساً، وليس تلامساً؛ فإن دخول حرف الألف على اللام أعطاها بُعْداً، واستقامة، ممَّا يدلّ على أن فعل اللمس كان في كامل الجسم، أو معظمه، مشتركاً بينهما، واستخدم الشارع فعل (لامس) عوضاً عن كلمة (الجنابة)؛ لأن الإنسان ممكن أن يقوم بالملامسة، دون أن يخرج منه المني، فلكي لا يظنّ أنه ليس عليه غسل أتت كلمة (لامس) لتُؤكّد أن الغسل واجب عليهما؛ إذا تمّ فعل التلامس؛ سواء أَ نزل أم لم ينزل، أدخَل أم لم يُدخل، والتلامس هو التقاء الرجل والمرأة ببشرتَيْهما، دون حائل بينهما، مقترن بشهوة.
أمَّا الجنابة؛ فقد ذُكرت صراحة { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ }المائدة6 لتشمل حالة الجنابة للإنسان على أيّ وضع، سواء أَكان احتلاماً، أم عمداً، أم من عملية نكاح؛ فيجب عليه أن يَتطَّهر للصلاة غسلاً إذا وُجِدَ الماء، وإذا لم يستطع الغسل لسبب ما؛ فينتقل إلى التيمّم صعيداً طيباً.