إباحة نكاح النساء المسلمات من رجال أهل الكتاب

 إن النكاح في المجتمع الإنساني هو علاقة غريزية تخضع للثقافة؛ حيث تقوم الثقافة بتنظيم هذه العلاقة بين الرجال والنساء بقانون ينظم قيام العلاقة، وما نتج منها، وما يترتَّب عليها، فهذه العلاقة الجنسية موجودة في المجتمع الإنساني ابتداءً، صورة من صور إشباع غريزة النوع، فلم يأت الدِّين أو القانون لإيجادها، بل أتى لينظم ممارستها في الواقع، ويحفظ ما يترتَّب عليها من تبعات؛ لأن هذه العلاقة بين الرجل والمرأة هي نواة لتأسيس الأسرة، التي – بدورها – ترفد المجتمع بالاستمرار كلبنة في بنائه، والأصل في علاقات الناس مع بعضهم هو التعايش والتعارف والتعاون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات 13).

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة2

وعلاقة النكاح بين الرجل والمرأة تُجسِّد هذه المفاهيم؛ إذْ هي  النواة الأولى لهذا المجتمع، فيتحقّق بهذه العلاقة بين الرجل والمرأة التعايش والتعارف والتعاون المبني على المودّة والسَّكَن بينهما، إذاً؛ علاقة النكاح بين الرجل والمرأة علاقة إنسانية تخضع للثقافة.

فالسؤال الذي يفرض ذاته الآن:

هل الثقافة الإسلامية تُحرِّم إيجاد علاقة نكاح شَرْعي بين امرأة ورجل من ثقافات مختلفة؟ أو أن هذه العلاقة لا تتدخّل بها الثقافة؟ أو أنها سمحت بصور دون أخرى؟

من المعلوم أن الشرع الإسلامي قام على قاعدة (الحرام مقيّد بالنصّ، والحلال مطلق ولايطبق إلا مقيداً بنظام المجتمع)، أو (الأصل في الأشياء الإباحة إلاَّ النصّ أو مادل عليه النص).

والدارس للنصّ القرآني لا يجد نصَّاً يُحرِّم نكاح رجالَ أهل الكتاب من نساء المسلمين، وانتفاء وجود نصّ التحريم يدلُّ على الإباحة حسب القاعدة، ومَنْ يقول بحُرمة ذلك، فعليه أن يأتي هو ببرهان على ادّعائه، مع العلم – أيضاً – أنه لا يوجد نصّ يبيح نكاح نساء أهل الكتاب من قِبَل رجال مسلمين، والنصّ الذي يعتمد الفقهاء عليه هو {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }المائدة5

والنكاح المذكور في النصّ هو النكاح المأجور، المشهور باسم نكاح المتعة، والأولى أن يُسمَّى نكاح الإحصان؛ لأن المقصد منه هو الإحصان، وهذا النصّ مثل قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }النساء24، فالنكاح المأجور هو نكاح بقصد الإحصان، يترتَّب عليه المتعة للرجل، والنفقة للمرأة، فهو علاج ظرفي للطرفَيْن، ولا ينتشر هذا النكاح المأجور إلا في مجتمع مُتفكّك ومُنهار؛ لذلك احتاج أفراده إلى هذا النكاح لعلاج مشكلة نَفْسية للرجل، واقتصادية للمرأة، وربما تتعاكس المشاكل بينهما لظرف ما، وله شروط وأحكام عرضتها في مكانها، ولعل من أهمها أن يكون الطرفان عازبين،  ونفي السفاح لكلاهما .

أمَّا النكاح الدائم؛ فقد أتى النصّ ليدلَّ على عطاء الرجل للمرأة بصيغة (الصداق) المشهور بين الناس باسم (المهر)؛ قال تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }النساء4، فنكاح الإحصان (المتعة) مأجور، وله شروط قد ذكرها النصّ، أمَّا النكاح الدائم؛ فهو نكاح قائم على خطبة الرجل لوُدِّ المرأة ؛ فيقدّم لها هدية دون مقابل، واجب على الزوج، وحقّ للزوجة، لذلك؛ سُمِّيَ هذا العطاء الواجب (الصداق)، وليس هو أجر يُدفَع للمرأة أبداً.

إذاً؛ ما حُكْم نكاح نساء أهل الكتاب من قِبَل رجال مسلمين؟

والجواب – أيضاً – بمثل ما سبق حسب القاعدة الأصولية: (الأصل في الأشياء الإباحة إلاَّ النصّ أو مادل عليه النص)، ولم يأت نصٌّ يُحرِّم النكاح من نساء أهل الكتاب، وبالتالي؛ فحُكْم النكاح منهنَّ مباح، والعكس صحيح أيضاً، أو ينبغي تحريم النكاح من أهل الكتاب، وتحريم نكاح أهل الكتاب من المسلمات؛ لأن المسألة متساوية تماماً في الاتجاهَيْن، فإمَّا الحرام لكلَيْهما، أو الحلال لكلَيْهما.

والمَنْع من نكاح رجال أهل الكتاب (في الفقه الإسلامي) للنساء المسلمات إنما هو مَنْع اجتماعي ثقافي سياسي، وليس منعاً دينياً، وذلك لأن واقع حال المرأة على الغالب مُتّصفة بالتابعية للرجل؛ فمن هذا المنطلق يخشى المجتمع على نسائه من أن يغيِّرنَ ثقافتهنَّ، غير أن الأولاد تابعون لأبيهم، وسوف يحملون ثقافته غالباً، فأراد المجتمع الإسلامي أن يُغلق هذا الباب بإحكام، فأعطى للأمر حُكْم التحريم الدِّيني، وَزَرَعَ – من حيث لا يشعر – الكُرهَ والبُغضَ بين الثقافات؛ إذْ كيف تكون نساؤهم حلالاً لنا، ونساؤنا حرام عليهم؟! أمَّا النصّ الذي يذكره مَنْ يقول بتحريم هذا النكاح بين الثقافات، ويحصره باتجاه واحد لمصلحته، فهو قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} البقرة221، فالملاحظ أن النصّ يحرّم النكاح بالاتجاهَيْن تماماً، فلا نحن ننكح المشركات، ولا المشركون ينكحون نساءنا المؤمنات؛ فالنصّ يتكلّم عن المشركين، فهل مصطلح المشركين يُطلَق على أهل الكتاب في الاستخدام القرآني؟!!

لنرَ ذلك.

قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } البينة  ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ }البينة            

لقد ذكر المشرع أهلَ الكتاب، وعطف عليه المشركين، ومن دلالة العطف التغاير، كما هو معلوم، فمصطلح المشركين في الاستخدام القرآني لا يُطلَق على أهل الكتاب أبداً، وبالتالي؛ فنصُّ تحريم النكاح من المشركين، والعكس، لا يتناول أهل الكتاب أبداً، فَمَنْ هم المشركون؟

قال تعالىâ {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }الأنعام161 ، وقوم إبراهيم كانوا يعتقدون برُبُوبية الكواكب، وأنها أرباب تشارك الرَّبَّ الأعلى في تدبير أمور الخَلْق، وبالتالي؛ لجؤوا إليها بالدعاء والاستغاثة والتعظيم، وعبدوها مع الله، أو من دونه، وترتَّب على ذلك وجود سَدَنَة وكَهَنَة نصبوا من أنفسهم أبواباً للتقرّب والدخول إلى هذه الأرباب، فاستعبدوا الشعوبَ، مُستغلِّين عقيدة الشِّرْك بالله العظيم، أمَّا الصورة الأخرى؛ فهي اعتقاد المشركين بديمومة الحياة الدنيا إلى ما لا نهاية، وبالتالي؛ ينكرون اليوم الآخر، وعملية البعث، والحياة بعد الموت، ويترتَّب على تلك العقيدة الشِّرْكية سقوط القِيَم والأخلاق، فلا يوجد حرام، أو حلال، ويختفي الضمير والشعور الإنساني!ويمارسون عملية إكراه الآخرين على معتقداتهم ، ومنعهم من ممارسة حريتهم في الاختيار .

قال تعالى في وصف حالهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }الجاثية24، وهذه الصور الشِّرْكية ليست للحصر، وإنما هي قابلة للتعدّد في الحياة الاجتماعية بصور كثير ة ومتنوّعة:

قال تعالى {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }لقمان13

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة28 

فالشِّرْك لسان حال واعتقاد للإنسان؛ حيث يصير منهجاً يُكيِّف سلوكه بحسبه، ووصف اللهُ المشركين بالنجاسة؛ حيث  إنهم ناس لا أمان لهم؛ لانتفاء وجود القِيَم، والأخلاق، والمبدأ، فلا يُؤْمَنون على الأنفس، والأعراض، والأموال، ولا غير ذلك أبداً،فهم مستبدون ومستعبدون وارهابيون وأحاديو النظرة . أمَّا أهل الكتاب؛ فهم – أصلاً – جزء من الدِّين الإسلامي، كونهم أتباع الأنبياء والرُّسُل سابقاً، ودين الأنبياء والرُّسُل جميعاً هو الإسلام، فالله – عزّ وجلّ – أنزل ديناً واحداً، وشرعاً إنسانياً، تراكمياً، تكاملياً مع الزمن، تخلَّله شرع قومي عيني لكلّ مجتمع سابق، فاستمرَّ نزول الشرع الإسلامي، مع تعديل ونسخ الشرع القومي باتجاه الإنسانية والعالمية، إلى أن تمَّ نَسْخه كاملاً، وحلّ محلَّه الشرع الإسلامي بتمامه وكماله؛ حيث نزل كاملاً في الكتاب الأخير (القرآن) بخلاف الكُتُب السابقة، فقد احتوت أجزاء من الشرع الإسلامي، وليس كلّه، وبالتالي؛ خُتمت النُّبُوَّة؛ لاكتمال الشرع الإسلامي، وحفظ الشرع الإسلامي بين نصوص القرآن المحفوظ، من خلال ربط خطابه بالواقع بصورة علمية؛ فأهل الكتاب هم مسلمون تاريخياً، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }البقرة132

{الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }النور3

الزاني اسم فاعل لفعل ثلاثي (زنى)، واسم الفاعل عندما يأت معرفاً  وفي بدء الجملة يأخذ دلالة الصفة الدائمة للفاعل كعمل يمارسه ، وهذا يعني أن المقصد هو الدعارة التي هي ممارسة الفاحشة كمهنة مأجورة أو لترويجها في المجتمع بقصد الفساد  وشيوع الفاحشة ، وكلمة المشرك في هذا السياق أخذت معنى ظاهر متقيد بالسياق،  ومعنى باطن متعلق بمعنى الشرك الذي يقابل الوحدانية لله ، فالمعنى الأول المناسب للسياق هو الشرك بالنكاح للمرأة مع أكثر من رجل لأن المرأة يحرم عليها الإشراك بنكاحها، والمعنى الثاني الباطن هو الشرك بالله الذي يعني أن يتخذ الشخص الله أداة لينطق باسمه ويحرم ويحلل ويأمر وينهى ويسفك الدماء ويأكل أموال الناس ويهتك أعراضهم ، ويدعو لغير عبادة الله ويضل العباد …الخ، فلذلك هذا وصفه الله بالظلم العظيم ولا يغفره للناس أبداً حتى يتوبوا ويصلحوا ما أفسدوا ، والنص أتى بصورة إخبارية عن الواقع حيث أن الزاني لاينكح إلا زانية مثله سواء اكانت تمارس العمل أم رضيت بعمل زوجها ودعمته فهي مثله ، أو العكس الزانية لاينكحها إلى زان مثلها  سواء أمارس الفعل معها أو روَّج لها ودعمها ورضي بفعلها فهو مثلها ، وكذلك الرجل المتزوج من امرأة وله عشيقات وخليلات فزوجته من حيث الحكم مثله لرضاها بفعله ، أو العكس المرأة المتزوجة من رجل ولها عشيق وخليل تشركه في نكاحها مع زوجها وهو راض عنها ويدعمها فهو مثلها ، والمعنى الثاني للشرك الإيماني متعلق برضى الزوجة بإجرام زوجها ، أو رضى الزوج بإجرام زوجته من حيث أنهما يتخذان الله أداة لسفك دماء الناس وقتلهم وأكل أموالهم والتحريم و التحليل باسمه كذباً وافتراء…وحرم ذلك على المؤمنين.

فدين أتباع الأنبياء والرُّسُل كلّهم الإسلام، الذي بدأ نزوله منذ نوح عليه السلام، مروراً بإبراهيم، وموسى، وعيسى، وختم بالنبي محمد، صلوات الله عليهم؛ فيوجد قاسم مشترك كبير بيننا جميعاً، إذاً؛ مصطلح المشركين لا يشمل أهل الكتاب، وبالتالي؛ فنصُّ تحريم نكاح نساء المشركين ونكاح رجالهم من المؤمنات خاصّ بالمشركين فقط.

أمَّا النص الآخر، الذي استدلّ الفقهاء به؛ فهو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الممتحنة10

فالنصُّ يتكلَّم عن الكفار فَمَنْ هم الكفار في المصطلح القرآني؟

الكُفْر لغة هو التغطية والانغلاق، ومن هذا الوجه أُطلق على الفلاح وصف الكافر؛ لأنه يُغطّي البذار في التربة، وأُطلق على الأرض المملوءة بالأشجار والمنخفضة التربة وصف (الكَفْر)، ممَّا يدلُّ على أن الكُفْر هو سلوك وعمل، لا علاقة له بالاعتقاد، فهو لسان مقال، وليس لسان حال، فهو كذب، وإنكار، وإلحاد، وعداوة، وبغضاء، وحقد، وإجرام، وحرب ضدّ الحق والعدل والسلام؛ لذلك يمكن أن يضيف المشرك لنفسه صفة الكُفْر، إنْ قام بسلوك كُفْري، وكذلك أهل الكتاب يمكن أن يقوم بعضهم باكتساب صفة الكُفْر إذا قاموا بسلوك كُفْري، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ }  (البينة 6). 

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }البقرة105

لاحِظْ؛ جملة (كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ، فلم يكفر كلّ أهل الكتاب، وإنما جزء منهم غير معيّن، وهم موجودون في كلّ زمان، ومكان، يتحالفون مع المشركين، ضدّ الحق والعدل والدِّين، وأكثر ما يكونون من أهل الكتاب هم اليهود الذين انتحلوا هوية بني إسرائيل، ودمجوا أنفسهم بأتباع موسى، ونسبوا أنفسهم نَسَبَاً إلى يعقوب، وإسحاق، وإبراهيم، زوراً، وبهتاناً.

قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }المائدة82

أمَّا النصارى؛ فهم أقرب أهل الكتاب للحقّ والعدل والسلام؛ قال تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهمْ يَسْجُدُونَ }آل عمران113

وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} المائدة82

إذاً؛ النصّ المَعْني بالدراسة لا يوجد فيه دلالة على تحريم نكاح نساء أهل الكتاب، منهم وإليهم، ومصطلح (الكُفْر) لا يتناولهم جميعاً، وإنما يتناول مجموعة من أهل الكتاب، اختارت موقف الكُفْر ضدّ الحقّ والعدل والعلم، فهؤلاء الكُفَّار من أهل الكتاب هم أعداء للإنسانية جميعاً، فَمَنْ يقوم من المسلمين بالنكاح من نسائهم، أو يسمح لهم بالنكاح من نساء المسلمات؟

هل يقوم أهل الحقّ والعدل بإيجاد علاقات اجتماعية مع أهل الباطل والظلم؟

هذا الذي ذكره النصّ الشرعي تحريم نكاح نساء الكُفَّار، وتحريم نكاح المسلمات للكُفَّار؛ لأن ذلك لو حصل لدخل الكُفْر إلى أسرة المؤمن، أو المؤمنة، وتعرَّضت لموقف محرج من كونها تصير عدوَّة للمؤمنين، تعيش مع الكُفْر، ومهدّدة بتغيير ولائها وانتمائها من صفّ الإيمان إلى صفّ الكُفْر،ومن العلم إلى الجهل  ومن هذا الوجه أتى قوله تعالى { فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }النساء،141 ، فالشِّرْك لسان حال واعتقاد، والكُفْر لسان مقال وسلوك، وتحريم النكاح محصور في المشركين والكُفَّار العدوانيين  فقط، ولا علاقة لأهل الكتاب – عموماً – بهذَيْن المصطلحَيْن، فالحذر من تعميم إطلاق مصطلح الشِّرْك، أو الكُفْر بصورة عشوائية؛ لأنهما مصطلحان يترتَّب عليهما أحكام كما لاحظنا. وعودة إلى بدء الموضوع، فالنكاح بين الرجل والمرأة بصورة شرعية هو عمل إنساني محترم، قائم على المودّة والسَّكَن إلى بعضهما، على أُسُس التعايش والتعارف والتعاون والاحترام، والقَبول بالرأي الآخر المختلف ضمن القِيَم والأخلاق والإيمان باليوم الآخر، لا يقهر أحدُهم الآخرَ، ويُهمِّشه من الحياة، وبالتالي؛ لا يخافان من بعضهما لوجود الأرضية الصلبة المشتركة بينهما.