الكائن البشري الرّحمادي الحيوي

إنَّ الكائن البشري، هو ابن الأرض، فهو آخر أبنائها ظُهُوراً وأكملهم خلقاً، وقد مضى على ظُهُوره على وجه الأرض، مدة طويلة، تقدر ببضع مئات الآلاف من السّنين، وربما الملايين، بخلاف تاريخ الإنسان المذكور في الكتب السّماوية؛ فهو لم يمض عليه أكثر من عشرين ألف سنة تقريباً، ممَّا يدل على أنَّ الكتب السّماوية؛ لم تذكر تاريخ هذا الكائن البشري، قبل أن يصير إنساناً فاعلاً عاقلاً؛ وذلك لانتفاء صنع الحضارات والأحداث، بينما نجد أنَّ الكتب السّماوية؛ قد تعرضت لذكر مسألة خلق هذا الكائن ابتداء، وكيف نما، وتطور، وصار نسله من ماء مَهين؛ فهذه المسألة ينبغي الانتباه إليها أثناء الدّراسة، والتّفريق بين تاريخ البشر كخلق وتطور، وتاريخ الإنسان كحضارة وأحداث، ولكل منهما علم خاص به. 

إنَّ الكائن البشري، لا يختلف في وُجُوده الفيزيولوجي، كثيراً عن سائر الكائنات الحية، التي تشاركه الحياة على سطح الأرض، وكون هذا الكائن ابن الأرض؛ فهو يتمتع بصفات الأرض، ويتركب جسمه من عناصر الأرض ذاتها، إنه كائن رحمادي، ممزوج بالطّاقة الحيوية،  له غرائز  وحاجات عضوية لابد من إشباعها؛ ليحافظ على وُجُوده الفيزيولوجي من أن يتحول إلى صُورة أخرى؛ فيفقد وُجُوده البشري، ويرجع إلى أمه الأرض التي سوف تقوم باحتضانه في رحمها، وتُحلل جسده إلى العناصر الأولى؛ التي أعطته إياها سابقاً، والرّوح ملازمة للمادَّة،  تعود لتظهر مرة أخرى في صُور مختلفة، من النّبات الذي يتغذى وينبت من التّربة؛ فالرّوح التي كانت تحكم بنية الكائن البشري، عادت إلى أصلها؛  لتشكل علاقة جديدة، وتظهر بصُور أخرى للمادَّة (ربما شجرة)، وهكذا تستمر دورة الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والحياة، كما هو مشاهد في الواقع،  قائمة ٌ في أصلها على الماء وبدأت في الماء، وليس في الطين،{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } (الفرقان 54).

فحيثما وُجد الماء، وُجدت إمكانية الحياة للكائنات، من نبات وحيوان وبشر؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } (الأنبياء 30).

واستمر تطور هذا الكون، منذ بدء نشوئه من صُورة إلى أخرى أرقى من السّابقة، إلى أن وصل إلى المستوى المطلوب، الذي يمكن للحياة أن تستمر فيه  من خلال مراحلها المائية، والبرمائية، والبرية، وصار التكاثر من جراء عملية توالد الموجودات من بعضها، من جراء علاقات زوجية تفاعلية معقدة.

قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } (نوح 14).

وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (الذاريات 49)

فثبتت حركة الكون وعلاقته مع بعضه، على الوضع الرّاهن.

قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه 5)(1).

وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }  (الأحزاب 62).

واستمر الكون في رحماديته، على نظام الثابت والمتغير، وفي هذا الكون، وعلى كوكب الأرض ظهرالكائن الرّحمادي الحيواني البشري، في المشروع الإلهي للخلق على سُلَّم التّطور ، بإرادة سابقة من الخالق.

لذلك لا نجد في النّص القرآني،  أي خطاب يُوجَّه إلى الكائن البشري، نحو: يا أيها البشر؛ فليس البشر بمحل خطاب، أو تكليف، والقرآن يذكر البشر في سياق الخلق وتطوره، أو تحديد الجنس نحو قوله تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } (الفرقان 54).

{ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }  (يوسف 31).

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ }ص71

فالوُجُود البشري، مثله مثل وُجُود أي كائن حي آخر، فليس هناك فرق  بين الطّاقة الحيوية الموجودة في أجنة الحيوانات، والطّاقة الحيوية الموجودة في الأجنة البشرية، ناهيك عن أنَّ الطّاقة الحيوية، موجودة ابتداءً في الحيوان المنوي، لكل الكائنات الحية.

وموت الكائنات الحية (النّبات، الحيوان، البشر) هو انتهاء صلاحية تركيبة الحياة البدائية، على شكلها المتطور، فتفقد صفة استمرارها بهذا الشّكل، فتعود إلى أصلها، سواء أكان ذلك بفعل فاعل، نحو أن يقوم الإنسان بقتل الحيوان، أو قطع الأشجار؛ فبعمله ذلك يوقف تفاعل الطّاقة الحيوية، وعلاقتها مع بعضها بعضاً، ضمن نظام محدد، وبتوقف تفاعل الطّاقة، ترجع إلى صُورتها الأولى البدائية، وتختفي العلاقة التي كانت تشكل حياة هذا الكائن الحي، ويصير وجوده في خبر كان، أم كان ذلك بعامل الزّمن،  وهو انتهاء التّفاعل الجدلي، للطّاقة الحيوية، ضمن هذه الصّورة؛ فيتوقف وُجُود الحياة فيها؛ لتعود إلى أصلها الطاقة الأم، والجسم إلى التراب وعناصره الأولى.

فعناصر الحياة موجودة  في الواقع؛ ولكن وُجُودها ـ وحدها ـ لا يكفي لوُجُود صُورة الحياة المتطورة، بل لابُدَّ من فاعل يقوم بإيجاد علاقات فيما بين هذه العناصر، لإخراج صُور للحياة مركبة ومعدلة، وقد فعل ذلك الخالق عندما جعل هذه الكائنات ( النّبات، الحيوان، البشر ) تتوالد من خلال نظام ٍ وضعه في بُنيتها (الجينات)؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (غافر 67).

فأصل الخلق، من تراب وماء ( كائنات ميتة )، أما ظُهُور الحياة بهذا الشّكل، فهو تدخل وتدبير إلهي، في جعل الحياة تستمر وتتوالد في صُورها،  وَفق المشروع الإلهي {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ } (السّجدة 7- 8).

فالأمر أشبه ما يكون بوُجُود مواد للبناء مخزنة، ومهما استمر وُجُود هذه المواد المُعَدَّة للبناء في المستودع  لا يمكن أن يتشكل منها أي صُورة، فلابُدَّ من وُجُود الفاعل العالم،  الذي يقوم بإيجاد علاقات معينة بين هذه المواد لتشكيل صُورٍ محددةٍ منها قد أرادها الفاعل سابقاً، وهذا ما أراده الخالق عندما استخدم فعل     (الخلق ) أولاً، ثم استخدم فعل (الجعل) لاحقاً؛  فعملية الجعل، هي عملية لاحقة لعملية الخلق، وهي تغير في الصّيرورة؛ فكان أصل الخلق من التراب و الماء؛ ثم صار  ـ فيما بعد ـ من الماء المَهين، الذي يحتوي على صُورة مختزلة، لقصة حياة الكائن الحي، في شكله المتطور، وعندما وصل هذا الكائن على سُلم التّطور  إلى عملية التّسوية، والتّعديل، والانتصاب على قدميه، وتسوية ظهره، وإطلاق يديه؛ قال الرب للملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }  (البقرة 30).

تنبَّه ـ أيها القارئ الكريم  ـ إلى كلمة (جاعل)، ولم يقل: خالق؛ لأنَّ الكائن المقصود بالكلام، موجود على الأرض، فقالت الملائكة: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة 30 ).

وهذا النّص يدل بشكل واضح، على أنَّ الرب قد حدد لمقام الخلافة كائناً  يعيش على الأرض، مُشاهداً من قبل الملائكة؛ لذلك أظهرت استغرابها من جعل هذا الكائن الأرضي خليفة؛ وهم يشاهدونه يفسد ويسفك الدّماء؛ فمن أين تكون له الخلافة  ؟

إنَّ الخلافة ـ مقاماً ـ يلزمها مؤهلات، لا يتصف بها هذا الكائن، وهذا دليل على أنَّ الملائكة لا تعلم بالمشروع الإلهي، إلا ما يظهر منه في الوُجُود تباعاً؛  ومن هنا، أشارت الملائكة إلى أنفسها بأنها مخلوقات راقية تُسبِّح بحمد الخالق، وتعظمه؛ لذلك، فهم رشحوا أنفسهم لأن يكونوا في مقام الخلافة؛ فقال لهم الرب: { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (البقرة 30 ).

ولم يُطلعهم على مشروعه في كيفية جعل هذا الكائن البشري؛ خليفة في الأرض.

(1) راجع شرح هذا النّص في كتابي الألوهية والحاكمية.