مفهوم إتباع الآباء في القرءان بين الذم و المدح

لقد قام فئة من المسلمين باستغلال ذم اتباع الآباء في القرءان بنفي ونقض مفهوم التتابع العملي للعبادات المعروف بالسنة المتواترة، وهذا خطأ فاحش منهم لأنهم لم يفرقوا بين الإتباع للأباء المذموم والمنهي عنه ومفهوم إتباع الآباء الذي حض المشرع عليه.

والدارس لمفهوم إتباع الآباء في القرءان يجد أنه ذكر عدة أنواع مذمومة ومنهي عنها ، ويوجد بالمقابل أنواع أخرى مدحها المشرع ، لنر ذلك من خلال سرد النصوص وجعلها تنطق بالمفهوم وتحدد هي الإتباع المذموم .

1- إتباع الآباء المذموم المتعلق بالحق والباطل مثل الإيمان والكفر،  والشرك والعبادة.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }المائدة104

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }لقمان21

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ }الأنبياء53

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }الشعراء74

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ }الصافات69

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148

{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }الأعراف173

2- إتباع الآباء المذموم المتعلق بالمنهج والملة :

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }الزخرف22

{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }الزخرف23

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }يونس78

3- إتباع الآباء المذموم المتعلق بالتشريع حرام وحلال:

{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ }النحل35

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }الشعراء74

هذه الأنواع الثلاثة لإتباع الآباء المذمومة بالقرءان والمنهي عنها ، نلاحظ أنها متعلقة بشخص الآباء أنفسهم، بالحكم على الأمور بالحق والباطل أو الصح والخطأ، وإتباع الآباء بالمنهج والملة الباطلة، وإتباع الآباء بالتشريع الحرام والحلال، وبعد الحصر للإتباع المذموم وصلنا إلى أن ماسواها خارج هذه الدائرة من إتباع متعلق بالإيمان والفكر والملة والعلم للآباء وليس لشخصهم يكون مباحاً  .

فما هو الإتباع للآباء المباح بالقرءان؟

عند دراسة القرءان والواقع وصلنا إلى أن إتباع الآباء المباح  هو ثلاثة  أنواع :

1- إتباع للآباء في العادات والتقاليد ضمن دائرة المباح الشرعي ، سكت المشرع عن هذا النوع وأعطاه حكم المباح وتركه لحرية الناس .

2- إتباع للآباء متعلق بملتهم الحنيفة وبإيمانهم بالله، وهو واجب.

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }يوسف38

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }النساء115

3-إتباع الآباء  المتعلق بتفصيل عملي لسنة تعبدية شعائرية وهما الصلاة والحج فقط، وهو واجب، والملاحظ أن هذا النوع من الإتباع تابع لحكم واجب نزل في المصدر التشريعي ونزل هيئته العامة فيه، وهذا التتابع العملي للآباء ليس حكماً يتعلق بالحق والباطل ولا بالصح والخطأ ولا هو تشريع  حرام وحلال ولا هو متعلق بمنهج أو ملة، وهذا يعني أن التتابع هذا ليس مصدراً علميا ولادينياً ولابرهاناً بحد ذاته على صح أو خطأ أو حق وباطل، وإنما هو برهان على حصول فعل متعلق بحكم تعبدي نزل في القرءان، والمشرع نبه عليه وأشار له وحض عليه وأمر به بقوله:

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }البقرة199

فهذا النوع من الإتباع التتابعي لفعل هيئة تعبدية نزل حكمها بالمصدر التشريعي ليس من دائرة الإتباع المنهي عنه والمذموم ، و النصوص القرءانية التعبدية نزلت متعلقة بالسلوك الإنساني وهي محكمة ، وليست نصوص آيات كونية علمية أو تاريخية حتى تكون متشابهة أو رمزية لا صورة لها ثابتة ويتعدد معناها ويتنوع ويخضع للتطور العلمي وأدواته  ، وعندما نزلت على الرسول  طبقها هو وقومه كتكليف مطلوب منهم ومارسها المجتمع كظاهرة متتابعة دون انقطاع، لذلك ما ينبغي الخلط بالمواضيع وسحب مفهوم الإتباع المذموم على آخر ليس من جنسه، فهذا فعل شنيع،  ويترتب عليه إنكار الصلاة والحج وتفريغهم من مفهومهم العملي بحجة عدم وجود نص قرءاني يذكر تفصيلهم ، وقد علمنا أن التفصيل قد أتى بالسنة العملية المتتابعة في الأمة ممارسة دون انقطاع، ولاسند لها ولارواية ولاعنعنة ولاعلاقة للبخاري أو مسلم أو الكافي بها.

لذلك من يستخدم مفهوم الإتباع المذموم بالقرءان لينفي على موجبه مفهوم الاتباع الممدوح هو إنسان يتخبط بدراسته كحاطب بليل لايعرف ماينفي أو يثبت ، فعليه بالتوقف فوراً ويعيد دراسته المنهجية التي يستخدمها في تدبر القرءان إن كان مخلصاً في ذلك ، وإن كان غير ذلك يكون قد ظهر جهله وعواره وتخبطه للقراء