الجنة دائمة والنار فانية

 

الثواب دائم، والعقوبة مؤقتة

يوجد في التراث بضع آراء لمفهوم الخلود في النار.

1- كل مَن يدخل النار لن يخرج منها أبداً ويستمر عذابه إلى ما لا نهاية (عذاب سرمدي). (1)

2- عذاب أهل النار مدة طويلة جداً ثم فناء النار ومن فيها(2).

3- يخرج من النار مَن كان في قلبه ذرة من الإيمان، ويخلد المجرمون أمثال إبليس وفرعون وهامان وقارون إلى ما لانهاية(3).

4- يتعذب أهل النار حسب ذنوبهم،ويَخرجون من النار تباعاً كل حسب عقوبته، فلا يبقى فيها إلا المجرمون (فرعون وقارون وهامان)، ومن تبعهم في إجرامهم فيبقون مدة طويلة جداً (خالدين فيها أبداً) إلى أن يأذن الله بخروجهم بعد أن يكونوا قد طهرتهم النار من شرورهم وخُبثهم ، فيخرجون إلى الجنة، وتسعهم رحمة الله، وتفرغ النار من أهلها، فَيُفنيها لانتفاء وظيفتها، وهذا الرأي نصره ابن القيم في كتابه    ”حادي الأرواح” ونقل ذلك عن شيخه ابن تيمية الذي أرجع ذلك لآراء بعض من الصحابة، وذكرت رأيهم للاستئناس وأن رأي ليس بدعاً من القول.

والرأي الرابع هو الذي أرجحه وأميل إليه، وسأعرض لكم كيف توصلت إلى ذلك مع القرائن والأدلة التي اعتمدتها في ذلك:

1- إن النفس للكائن الإنساني متصفة بصفة الدوام السرمدي لا تفنى، هكذا أرادها الخالق تبارك وتعالى، فسواء أكانت النفوس في الجنة أم في النار، فهي متصفة بصفة الدوام السرمدي، وفناؤها هو نقض لحكمة الله من خلقها بهذا الشكل العاقل الواعي الحر، وبالتالي يبطل مفهوم فناء أهل النار، ويبقى للنقاش والحوار المفهومين الأول والثالث .

2- مفهوم أسماء الله الحسنى وبالذات اسمَي الحكيم والرحيم يقتضيان أن يكون العقاب مناسب للعمل، وليس أكبر أو أكثر منه ، ولم أستخدم كلمة العادل كاسم لله لعدم وروده في القرءان، وأسماء الله توقيفية ولا نسم الله إلا بما سمَّى به نفسه فهو العليم الخبير بما يليق به من جلال وعظمة، وحكم الله فوق العدل فهو يعتمد على نفي الظلم عن نفسه ويعتمد على الحكمة و الرحمة، ومهما كان العمل إجرامي، فهو لاشك محدود في النهاية، وبالتالي لابد من محدودية وانتهاء مدة العقاب، بخلاف الثواب والعطاء، فهما مبنيان على العمل الصالح، ولكن غير مُقيدان به من حيث الكم والكيف، وإنما هما مرتبطان بصفة الكرم والقوة والقدرة للمُعطي ، فالعقاب محدود، والعطاء والثواب مفتوح، والأصل في الخير والصلاح  هو الاستمرار والديمومة، بينما  الشر والفساد مؤقت وظرفي ، فالناس يدخلون إلى الجنة بعملهم الصالح وبرحمة الله لهم، ويخرج العُصاة من النار تباعاً بحكمة الله وقدرته ورحمته .

3- الثواب مفتوح ودائم ومتعلق باسم الله الكريم والغني والعزيز والقدير، والعقاب مؤقت وظرفي ومثل العمل ويتعلق باسم الله الحكيم الرحيم ونفي الظلم عن الله، والعقوبة متعلقة بالعمل وليس بالنوايا أو الخبث النفسي فهذا محله العلاج النفسي بالتطهير والتزكية للنفس بالتعذيب لها.

{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهمْ لاَ يُظْلَمونَ }الأنعام160

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }غافر40

{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }الشورى40

4- أمر الله الناس بالمعاقبة بالمثل وعدم العدوان والظلم، فهل يفعل الله ما نهى العباد عنه ويظلم العباد ويعاقبهم عقوبة تفوق ذنبهم.

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }النحل126

{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ همْ فِيهَا خَالِدُونَ }يونس27

5- إن صفة الغضب الإلهي واللعن صفة عارضة غير مستمرة، بخلاف الحكمة والرحمة فهما مستمرين، وذلك يقتضي تحديد العقاب، وفناء النار، وخروج أهلها برحمة الله الواسعة إلى الجنة في نهاية المطاف، فالحكمة والرحمة أصل ، والغضب واللعن ظرف راهن .

6- كلمة (عذاب) من عذب، التي تدل على عزل أو فصل أو تنقية شيء من أمور لحقت به، نحو الماء العذب، وهو الماء الصافي الصالح للشرب وخالي من الشوائب، والعذاب للإنسان هو القيام بتطهيره أو عزل الشوائب التي أصابت نفسه، وهذا مفهوم التعذيب،{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً }الفرقان53، وإذا انتفت الغاية انتفى مفهوم العذاب وصار تشفياً، وهذا الفعل منزه عنه الخالق الحكيم الرحيم الصمد المستغني عن كل شيء ، والقيام بالتعذيب ومن ثم إفناء المعَذبين عبث لأن الفناء لهم ينقض الحكمة من تعذيبهم، فهل نعذب الماء ثم نرميه على الأرض ، واستمرار التعذيب إلى ما لا نهاية أيضاً عبث وخلاف الحكمة، فهل يقوم أحدكم بتعذيب الماء بشكل مستمر دون انقطاع إلى ما لانهاية ؟ أم يتوقف عن ذلك الفعل حينما يصير الماء عذباً؟ ولو استمر أحدكم بتعذيب الماء بعد أن صار عذباً يكون إنساناً عبثياً غير حكيم ولا يوجد عنده علم بما يفعل، فالتعذيب ضرورة أن يكون له مآل و غاية ينبغي أن تتحقق وإلاّ انتفى مفهوم العذاب، والعذاب للنفس ، والألم للجسم، وبالتالي بطل الرأي الأول والثالث لانتفاء مفهوم العذاب عنهما ونقضهما لاسم الله الحكيم الرحيم .

7- بما أن الله حكيم عليم رحيم فأفعاله غائية، فما هي غاية الله من استمرار عقوبة أهل النار إلى ما لانهاية إذا تحقق العذاب والألم والعقوبة للمجرمين الكفرة الظالمين ؟

مع العلم أن العذاب كمفهوم له وجهين:

الأول: تطهير للإنسان نفسياً من نجاسته وخبثه .

الثاني: عقوبة مؤلمة نفسياً وجسمياً.

ومثل ذلك كمثل المريض عندما يدخل إلى المشفى للعلاج ، فهو حين العلاج يشعر بحزن وقلق وضيق نفسي شديد ويصاحب ذلك ألم جسمي، ولكن النتيجة هي خير له من حيث الشفاء نهاية ، ويمكث في المشفى حتى ينتهي علاجه ويتطهر ، وبعد وصوله إلى مرحلة الشفاء لم يعد مبرراً  لوجوده في المشفى وينبغي إخراجه فوراً، وفي حال استمر وجوده بالمشفى بعد شفائه فهذا ظلم له ونقض لحكمة مدير المشفى وطعن في علم الطبيب المعالج!

وهكذا من يدخل النار فهم يستحقون ذلك بسبب جرمهم وكفرهم وظلمهم وعدوانهم على الناس، ولابد من تحقيق الوعيد الإلهي لهم وتحقيق نفي الظلم عن العبيد يوم القيامة، فالغاية الإلهية واضحة من دخول أهل النار للنار وهي العذاب لتحقيق الصورتين لها الطهارة النفسية، والعقوبة للنفس معنوياً والألم للجسم مادياً، وهذا يتحقق خلال فترة زمنية محددة مهما طال الزمن لابد من تحقيق الغاية وإلا انتفت الغاية من العذاب وانتقضت الحكمة الإلهية وصار ظلماً للعبيد وانتفت الرحمة الإلهية .

8- مفهوم التعويض للناس عما أصابهم في الحياة الدنيا من المصائب ، فالإنسان المظلوم يأخذ حقه كاملاً مضاعفاً حتى يرضى، ويذهب من نفسه الضيق والحزن، ويُعاقب اللهُ الظالمَ بما يستحق ، فيتم شفاء غليل نفس المظلوم، وبعد ذلك ينتفي عن المظلوم صفة وقوع الظلم عليه لأخذ حقه مادياً ونفسياً، وفي هذه المرحلة يرجع الأمر إلى مشيئة الله وعلمه وحكمته ورحمته، فيفعل ما يريد، ليس لأحد بعد تحقيق الحق والتعويض عن الضرر وحصول الرضا من قبل المظلوم من حق بالاعتراض أبداً على رحمة الله ( إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ)   هود107

لندخل لنقاش النصوص تفصيلاً لإزالة ما بقي من ظنون وشوائب تعيق فهم الفكرة رغم ثبوتها كلياً من خلال البراهين القرءانية و المنطقية التي ذكرتها.

1- لم يأت أي نص يخبر عن المكوث في الجنة بصيغة زمنية محددة، بينما أتى في الإخبار عن المكوث في النار بصيغة زمنية محددة . قال تعالى: (لاّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً) (عم 23)، وكلمة أحقاب: جمع كلمة (حُقبة)، التي تدل على مجموعة زمنية طويلة جداً ، ولكن في النهاية هي محدودة من حيث الكم ، ومجموع المحدودات محدود ضرورة ، بينما اللانهاية لا تُجمع ! .

2- لم ينف الله خروج أهل النار ،قال: (وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ) (السجدة20) ، انظر إلى فاعل كلمة (يخرجوا) وهم أهل النار، ولم ينف النص إرادة الله لهم بالخروج فيما بعد بإذنه، وانظر إلى كلمة (ذوقوا ) ؟ وهي كلمة تدل على تناول بعض الشيء لاختباره ، فهي تدل على المدة المحدودة، انظر قوله تعالى: {كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}الأنبياء35، ولم تُستخدم هذه الكلمة لأهل الجنة أبداً.

3-  الفرق بين جملة( وماهم بخارجين من النار) ، وجملة (وَمَا هم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) المتعلقة بأهل الجنة .

انظر إلى دلالة النص الذي يتكلم عن إرادة أهل النار في الخروج ونفي ذلك عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}البقرة167، فكلمة (خارجين) اسم فاعل، وهي تدل على إرادة أهل النار الخروج من تلقاء أنفسهم من شدة العذاب، فنفى الله عنهم تحقيق مرادهم، ولم ينف إرادة الله لهم بالخروج فيما بعد، انظر إلى النص التالي الذي يتكلم عن أهل الجنة{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }الحجر48، فمن الطبيعي أن أصحاب الجنة لا يريدون الخروج ولا يطلبونه لأن الأصل في الثواب والعطاء التمليك والاستمرار، لذا؛ أتى النص بكلمة  ( مُخرَجين) لتدل على نفي إخراجهم من قبل الله.

دراسة كلمة (يُخرَجون وخارجين المتعلقة بأهل النار)

ابتداء يوجد منهج ينبغي أن نتبعه في الدراسة ويوجد منظومة ينبغي أن تتفعل ويتم الاعتماد عليها، والدراسة لاتكون من الجزء إلى الكل وإنما من الكل إلى الجزء، وفي حال لم يتم فهم الجزء لايصح نقض مفهوم الكل

{ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }الجاثية35

{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }الحجر48

فعل خرج في النصين لاشك أنه من الفعل الرباعي أخرج ولكن يوجد فرق كبير بين الصياغتين

–  النص الأول تم استخدام أداة النفي ( لَا يُخْرَجُونَ)

لا النافية تفيد نفي حصول الفعل مستقبلًا، وتعلق الخطاب والصياغة يحددان هل هذا النفي المستقبلي دائم ومستمر أم هو خاص

النص الثاني تم استخدام أداة (وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ)

ما النافية تفيد نفي الحال، وتعلق الخطاب والصياغة يحدد هل هذا الحال مستمر أم هو خاص

صياغة نفي عن أهل النار أتت (فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا) لاحظ وجود كلمة (فاليوم) قبل كلمة (لايُخْرجون) وهذا يدل على يوم الحساب وبدئه، فلابد أن يتحقق الوعيد ويدخلون النار، ويخضعون للعذاب، ولا يُقبل منهم أسفاً أو اعتذاراً أبداً. ولا تدل الكلمة على نفي الإخراج بصورة دائمة في غير هذا اليوم، انظر مثلاً قول الملك لوزيره: اليوم لا يُخرَج أحد من السجن. لا تفيد نفي الإخراج في غير هذا اليوم.

ولذلك أتى استخدام كلمة خارجين لأهل النار في نص {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }البقرة167

ودلالة كلمة خارجين تتعلق بإرادة أهل النار أنفسهم فهم يريدون الخروج فأتى النص ونفى عنهم هذا الفعل والإرادة وأنهم غير قادرين على فعل ذلك ولن تلبى رغبتهم ولكن لم ينف إرادة الرب في إخراجهم فيما بعد انتهاء عقوبتهم وحصولهم على الطهارة وتسعهم رحمة الله

بينما في نص أهل الجنة أتى دلالة ما (وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) التي تفيد نفي الحال الآن، والصياغة وتعلق الخطاب يعطيها بُعد زمني مستمر

4- انظر إلى دلالات الكلمات المستخدمة في دخول أهل النار إلى النار،وكيف أنها لا تدل لساناً على اللانهاية للحدث :

أ- لبث : تدل على مجرد السكون والتجمع والالتصاق في الشيء {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً }النبأ23.

ب- أوى : تدل في عمومها على ميل الإنسان إلى مكان والدخول فيه ليحصل على الحماية، ولذلك يأوون الكفار إلى النار ليتخلصوا من شعورهم بالخزي الذي يحرق قلوبهم {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى }النازعات39.

ت- خلد : كلمة تدل على ارتخاء وحركة متصلة لازمة منتهية بدفع شديد . نحو خلد زيد إلى الأرض . إذا التصق بها بشدة، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ }الأعراف176، وخلد زيد في منزله، بمعنى بقي فيه ولم يخرج منه حالياً ولايعني أنه لن يخرج منه أبداً

ث- أبد : تدل في عمومها على الزمن الطويل الممتد، وجمعها آباد، ولكن في النهاية هي محدودة ضرورة إلا بقرينة تعطيها صفة الامتداد {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً }النساء169.

ج- أتت كلمة (الخلود) لأهل الجنة بهذه الصيغة ولم تأت هذه الصيغة لأهل النار .

{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ }ق34

5- مجيء صيغتين لعقوبة أهل النار مختلفين عن بعضهما وهذا يدل على اختلاف المعنى ضرورة لإحكام القرءان،  أحدها: (خالدين فيها) دون ذكر كلمة (أبداً) بعدها {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }النحل29.

الثانية: (خالدين فيها أبدا) {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً }النساء169

وبما أن الخطاب القرءاني محكم والقاعدة اللسانية المنطقية تقول: إذا اختلف المبنى اختلف المعنى ضرورة ، وأي زيادة أو تغيير في المبنى هو زيادة أو تغيير في المعنى، يدل هذا على وجود حكمين لأهل النار ضرورة.

الأول: مفهوم كلمة (خالدين فيها) وتدل على مجرد الدخول للنار لفترة زمنية معينة ، لأن فعل خلد لايدل على الاستمرار في المكان الذي خلد إليه أو فيه، فنقول : خلد زيد إلى فراشه لينام ، ولايعني أنه لن يستيقظ أو يقوم من فراشه فيما بعد، ونقول : خلد زيد في فراشه، بمعنى نام نومة طويلة .

الثاني: مفهوم كلمة (خالدين فيها أبداً) زاد في المبنى كلمة (أبداً) وهي تدل على الزمن الطويل جداً ولذلك تجمع على آباد، ومن المعروف أن اللانهاية لا تجمع، والقانون الوضعي يحدد الحكم المؤبد بفترة عشرين عام، لذلك يحكمون على المجرم المتعددة جرائمه بثلاث مؤبد مثلاً، وهذا يدل على أن التأبيد هو المكوث الطويل جداً بصرف النظر عن مدته الزمنية في النار، واختلاف الصيغتين دليل على خروجهما كلاهما، ولكن كل فئة بعد انتهاء عقوبتها وحصولها على الطهارة والتزكية.

6- {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ }هود108

ينبغي الانتباه إلى أن المفهوم لايشكل من جزء وإنما لابد له من استحضار المنظومة كلها التي تحكم الجزء هذا وينتمي إليها، ودراسة كل كلمة فيها وما هو تعريفها ومفهومها.

الفريقين ( أهل الجنة وأهل النار) مشتركين في النصين بثلاث نقاط:

خالدين فيها ، دوام السماء والأرض، الاستثناء بمشيئة الله .

–  مفهوم خالدين فيها ذكرناه سابقاً وأنه يفهم حسب تعلقه، فإن تعلق بأهل الجنة فهو يفيد الاستمرار دون الخروج منها، وإن تعلق بأهل النار فهو يفيد الدخول المؤقت الظرفي، ولايقولن أحدكم هذا تحكم بالنص ولعب به ؟  المفهوم لا يؤخذ من أهداب النص و معاني مفرداته اللسانية فقط، فهذا المستوى الأول اللساني للفهم ، ولابد أن يرتقي الباحث إلى مستوى التدبر وهذا يكون من خلال العلم بالمنظومة القرءانية التي تحكم النصوص فهي توجه وترشد الباحث وتحدد مفهوم الكلمات، وهذا هو العلم والتدبر وليس شرح المفردات والجمود على ظاهرها!

– دوام السماء والأرض مستمر في الوجود رغم تبدل قوانين وجودهما بما يناسب الظرف الجديد {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48، ومن المعروف أن المادة لا تفنى كبنية وإنما تفنى كصورة وتتحول إلى شكل آخر، وخلود أهل النار وأهل الجنة متعلق بديمومة السموات والأرض ولكن أتى الاستثناء بمشيئة الله، فماذا يعني هذا؟

–  مشيئة الله : المشيئة غير الإرادة وإن علمنا مفهوم الإرادة علمنا مفهوم المشيئة ، أراد كلمة تدل على القصد والعزم والتحديد لشيء بعينه دون غيره {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82، فإرادة الله حتمية وهو فعال لما يريد، بينما المشيئة هي تعلق التوجه بأمرين أو أكثر دون تحديد لأحدهما أو ترجيح بينهما، ولذلك تعلقت مشيئة الإنسان بمشيئة الله وليس بإرادته، فالناس تؤمن أو تكفر بمشيئة الله ولا يخرجون عنها ، ولو قلنا: إن الناس تؤمن أو تكفر بإرادة الله، لصار الإنسان منفذاً لإرادة الله وسقط التكليف والحساب، وهذا يوصلنا إلى أن مفهوم المشيئة في نصي دخول النار والجنة المتعلق بمشيئة الله يفهم من القرائن التي تحدد أحد الاحتمالين  ولننظر للنصين ونرى الفرق بينهما بعد أن رأينا التماثل بينهما .

في نص دخول أهل النار أتت جملة (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) بعد الاستثناء بالمشيئة ، وهذا يدل على أن الاحتمالين مفتوحين الخلود في النار لمدة طويلة جداً جداً أو الخروج منها بعد فترة معينة ، فالأمر يرجع لإرادة لله وهو صاحب القرار والفعل، والذي نفى احتمال الخلود السرمدي هو المنظومة المعروضة سابقاً.

بينما في نص خلود أهل الجنة أتت جملة (عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) بعد الاستثناء بالمشيئة، وهي قرينة صريحة في تحديد احتمال الدوام لأهل الجنة في الجنة دون الخروج منها أبداً، وهذا ما يدل عليه المنظومة أيضاً.

8- اشتراك بعض الكلمات لأهل الجنة وأهل النار في الاستخدام مثل ( خالدين، أبداً، مأوى..) قد يقول قائل : وكذلك أهل الجنة ينطبق عليهم المفهوم ذاته من حيث المكوث في الجنة بشكل مؤقت ، فإما أن تقول بالخروج للفريقين أو الخلود السرمدي لكلاهما كل في مكانه ؟

والجواب على ذلك هو: ينبغي أن نستحضر الحكمة والرحمة  ونفي الظلم  عن الله لعبيده وذلك كأصل للبحث والتدبر لكل الجزئيات، والعلم أن الغضب واللعن ظرفي، أي الثواب دائم، والعقاب مؤقت، والجنة دار السلام والمقام، والنار دار البوار والهلاك، وأهل الجنة لن يُخرجهم أحد منها، بينما أهل النار لا يخرجون بإرادتهم ، وإنما يخرجون بالعفو الإلهي والرحمة التي وسعت كل شيء بعد نفي الظلم عن العبيد جميعاً ، والوعد لابد من تحقيقه لأصحاب الجنة، والوعيد متعلق بمشيئة الله إن شاء فعل ، وإن شاء عفا، فهو الملك القاهر الحكيم الرحيم الحي القيوم القادر على كل شيء، فهذه المنظومة هي البرهان الذي يحكم أفهامنا للنصوص الجزئية ولا يصح عضوضتها أو فهمها بمعزل عن المنظومة، فالأمر تدبر ودراسة وليس قولاً عن جهل أو صادر عن هوى .

9- دلالة النص {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }مريم71

فحسب سياق النص والآيات التي قبله وبعده متعلقة بإحضار المجرمين إلى قرب النار جاثيين،{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }مريم68 ، ورؤية المؤمنين لهم، كما أن دلالة كلمة ( ورد) غير دلالة كلمة (دخل)، فالنص يتكلم عن عملية ورود وليس دخول، وهي تدل على العرض والحضور والمجيء وما شابه ذلك، ومن ثم نجاة المؤمنين من النار ودخول المجرمين فيها. {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }مريم72.

10- ودلالة النص {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة80، لا يوجد فيه نفي خروج أهل النار، وإنما يدل على أن الكافرين يظنون أن المكوث في النار هو بضع أيام، وسوف تمضي بسهولة، فيخبرهم النص أن هذا القول هل كان نتيجة أخذكم من الله عهداً ، أم تقولون على الله ما تعلمون، إن العذاب والمكوث في النار أكثر مما تعتقدون بكثير، والعذاب شديد ومهول، ومثل ذلك كمثل من يقول إن مدة عقوبة جريمة القتل بضع أيام، وبالتالي يستسهل الجريمة، بينما الواقع غير ذلك تماماً فقد تصل العقوبة إلى الإعدام.

أخي الكريم

لاحظ أن آيات الخلود في النار تأت بصيغة اسم فاعل دائماً (خالدون)، ولم تأت ولا مرة واحدة بصيغة (مُخَلدون)، بينما أتى وصف دخول أهل الجنة للجنة بيوم الخلود: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ }ق34، وهذا يدل على أن صفة الخلود سرمدية لأهل الجنة، وليست هكذا لأهل النار وإنما الخلود منبثق من إرادة الإنسان الكافر، وذلك لشعوره بالخزي والعار فيسارع إلى الخلود إلى النار ليطفئ نار الخزي والندم والعذاب النفسي الملتهب في داخله ، وذلك من باب تغطية الألم النفسي بألم أشد منه، نحو استخدام الكي في النار لتغطية ألم نفسي أو جسمي ! وهذا لا يعني عدم وجود الألم الشديد في النار الذي يدفعهم إلى إرادة الخروج منها، فهم يخلدون إلى النار للخلاص من الألم النفسي، وعندما يدخلونها يجدون ألماً أشد منه فيريدون الخروج منها فلا يستطيعون، ويمكثون في النار إلى أن تَطْهُر نفوسهم الخبيثة النجسة، فإذا طَهُرَت نفوسهم، وذلك يكون بعد أن أدوا عقوبتهم كاملة، وتحقق الحق الإلهي وحكمته فيهم، وانتفى وجود المبرر لبقائهم في النار بعد أن صارت نفوسهم طاهرة، فتسعهم رحمة الله ، ويخرجون بالأمر الإلهي العفو والرحمة، فيخرجون من النار إلى الجنة، ولكن بالحد الأدنى منها، لانتفاء العمل الصالح عنهم في دار الامتحان، وسوف يرضون بذلك، ويشعرون في قرارة أنفسهم بالكرم والعطاء الإلهي العظيم،  لأنهم يعلمون أنهم لم يحصلوا على ذلك بعملهم وطاعتهم لله ، ومثل ذلك كمثل ملك أصدر قراراً بالعفو عن مجرم بعد انتهاء نصف عقوبته المحددة له، فمجرد فعل العفو بحد ذاته هو كرم ورحمة، فما بالك إذا رافقه عطاء !، هل يظن أو يتساءل المجرم عن قلة أو كثرة العطاء؟ وهل يعتقد أن العطاء حق له؟ أم يرضى بأي شيء وهو مسرور به لأقصى الحدود لعلمه في نفسه أنه لا يستحق ذلك أبداً .

مفهوم الخلود غير السرمدية

أما النصوص الأخرى التي تدل في ظاهرها على المكوث اللانهائي مثل (إنَّ الذين كَذَّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفَتَّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنّة حتى يلجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاط )الأعراف40، فالنص ذكر صفتين وهما التكذيب والاستكبار، فمن اتصف بهما لابد أن يطوله الوعيد، ونفي فعل دخول الجنة (لا يدخلون) لا يفيد النفي المستمر إلى ما لانهاية بدليل مجيء بعده جملة(حتى يلجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاط) لأنه لو كان النفي يفيد الاستمرار في النص لصارت الجملة الأخيرة عبثاً ولم تفد شيئاً جديداً،  ولو كان المقصد النفي المستمر لأتى النص بصيغة( ولا يَخرجون من النار حتى يلج الجمل في سم الخياط) بدل كلمة ( لا يدخلون الجنة)، فالنص نفى دخول الجنة ابتداء وذكر أنه لابد أن يطول الوعيد الكاذبين بآيات الله والمستكبرين عنها ،فينبغي أن تُفهم هذه النصوص وأمثالها على ضوء المنظومة العامة للمفهوم  وعدم تحميل الكلمات دلالات لا تحتملها، فمفهوم اللانهاية لا يدل عليه أي كلمة مما تم استخدامه في النصوص المتعلقة بدخول النار والمكوث فيها، مع العلم أن اللسان العربي يحتوي على كلمة تدل على الاستمرار اللانهائي في اتجاه واحد فقط، وهي كلمة (سرمد ) وهي مؤلفة من كلمتين: (سر+ مد)  وكلاهما مع بعض  يدلان على بدء الشيء وتكراره ومده واستمراره مجتمعاً ومندفعاً بقوة على ما هو عليه إلى ما لانهاية لذلك نقول:الله أزلي في وجوده، وسُرمدي في بقائه. ولم يتم استخدام كلمة (سرمد) لأهل النار أبداً، مع استخدامها في النص القرآني مُقيدة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) القصص 71-72 ). وقد يقول قائل: ولم تُستخدم لأهل الجنة أيضاً. وأقول: لأن استمرار أهل الجنة في الجنة تحصيل حاصل، فكما ذكرت سابقاً الثواب والعطاء والنجاح دائم ومستمر، فَمَن مِن الناس يظن أن جائزته التي حصل عليها مؤقتة؟ ولو سأل المانح لها عن حقه في امتلاكها أو استمرارها لضحك الناس منه!، بخلاف سؤال المعاقَب عن مدة انتهاء عقوبته ،فهو سؤال مشروع وحق له.

لذلك ؛ لا قيمة لأي تساؤل غير علمي أو غير قرءاني مثل لماذا لم يذكر الله خروج أهل النار صراحة وفناء النار ؟

وأقول : هو مذكور ومفهوم في القرءان لمن تدبر بعلم وفهم كما قرأتم آنفاً في هذا البحث القرءاني، ولكن هذا يحتاج لموضوعية وتجرد من التراث والتعامل مع القرءان كمنظومة وليس بشكل معضوض، ويلزمه طهارة فكرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  عدنان الرفاعي: “أكذوبة فناء النار”. والدكتور أحمد صبحي منصور ” المسلم العاصي”