الشيخ والحلاوة

كان في قرية نائية عن المدينة شيخ محتال، استطاع أن يجمع حوله أكثر أهل القرية، مستغلاً حفظه للقرآن وصوته الجميل في تلاوته، بجانب قيامه بإنشاء جوقات الابتهالات الدينية والإِشراف على حلقات الرقص المترافقة مع الذكر المرخم.

ودرجت عادته على إحياء حلقة ذكر مساء كل خميس،  وينسل أهل القرية من كل حدب وصوب ليحضروا هذا الحفل المبارك، فمنهم من يكتفي بالمشاهدة وتطويح الرأس يميناً ويساراً، ومنهم من ينخرط في الحلقة قافزاً عن الأرض نصف متر، ومُخرجاً من فمه زفيراً؛ يزعمون أنه اسم الله U!، وإذا أصغيت لهذا الزفير تجده أقرب ما يكون لصوت حرف الهاء مضموماً ( هو).

لاقت طريقة الشيخ سعد الدين رواجاً بين أهل القرية؛ حتى صار له مريدون يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، ويعتقدون بقدرته على شفاء المرضى، ورد الغائب، وإطلاق السجين، وزرع المحبة بين الزوجين، وجعل العقيم يُنجب أولاداً،  إضافة إلى علمه بالغيب، فهو قطب من الأقطاب!.

والتحق بجَوقة الشيخ، الشاب مَهران بعد أن أكمل بالزواج نصف دينه، وأراد أن يتقرب إلى الله U، فدخل على الشيخ، ووقف قبله بمترين، وجثا على ركبتيه، وزحف، حتى وصل إلى حيث يقعد الشيخ، فأكَبَّ على يده، وانهال عليها تقبيلاً، ورفعها إلى جبينه بخشوع،  فوضع الشيخ يده الأخرى على رأس مهران، وقال: لقد تَقبَّل الله منك خضوعك، فادخل بسلام إنّك من الآمنين.

وصار مهران من مُريدي الشيخ، يحافظ على حلقات الرقص الذِكري، ويواظب على حضور جلسات حَقن العقل بالمفاهيم المنَوِّمة، والتغييب عن الواقع.

وذات يوم اجتمع مهران مع أحد مُريدي الشيخ في طريقه إلى حلقات الذكر، فرآه حاملاً سلة بيض، وفرخ دجاج.

فسأله:لمن تحملهم، وأنت ذاهب إلى الحلقة ؟.

فأجابه: إلى حضرة مولانا الشيخ.

فتعجب مهران! وسأل: لماذا ؟

فأجابه صاحبه: شيخنا لا يعمل شيئاً، فمن أين يعيش!؟

وتابع: لذا؛ ينبغي علينا أن نتكفل بمعيشته وأهله، حتى يتفرغ إلى عبادة الرب، ويسهر على تربيتنا وتدريسنا.

اندهش مهران! ولم يدر ما يقول.

وتابعا الطريق إلى حلقة الذكر، وانخرطا بها قافزين صاعدين نازلين مرددين: هو – هو – هو!، حتى أصابهما التعب، وشعر مهران بتيار حار يسري في عقله!، فاستغرب! أهو تيار النشوة، والمحبة، واليقين، أم تيار الغباء حقاً؟!، قطع الشيخ الخبير سلسلة الفكر مخافة أن تتم قائلاً: أيها الأحبة! رددوا معي: يا لطيف عشرة آلاف مرة، عسى أن يلطف بنا اللطيف! يا لطيف؛ يا لطيف.

وغرقت جَذوة الفكر في جَوقة يا لطيف، وانطفأت.

وخرج مهران حائراً، ضائعاً يشك في وجوده، ويتساءل؛ كيف أكون أنا هو، وهو أنا!؟ إن قلتُ هو؛ فأنا، وإن قلتُ أنا؛ فهو!.

وسار مُتثاقلاً إلى زوجه، واستحال اسمه في نفسه؛ إلى حيران، أو حَمران؛ بدل مهران، وعندما استقبلته زوجه نظر إليها وقال: أنتِ أنا، وأنا أنتِِ، وهو أنا، وأنا هو، فأنتِ هو، وهو أنت، فنحن هو، وهو نحن!، نظرت زوجه الشابة إليه باستغراب!، وقالت: اسم الله عليك! ماذا أصابك يا زوجي العزيز ؟ قال: اسم نفسي على نفسي، ماذا أًصاب نفسي من نفسي!؟ أمسكت زوجه بيده وأدخلته إلى البيت، وهي في حالة ذهول واضطراب مما أصاب عقل زوجها.

وأخبرت جارتها في اليوم الثاني عما اعترى لزوجها، فأشارت عليها بضرورة إخبار الشيخ حتى يعالجه.

وفعلاً جاء الشيخ الهمام ومعه بعض المريدين الذين يتبعونه كظله، ودخل البيت، وعندما رآه مهران قفز من السرير، وأخذ يُقَبّل يده، وينتحب، فربت الشيخ على رأسه، وطلب منه الرجوع إلى مرقده، ووقف الشيخ عند رأسه قائلاً: يا مهران! لا تسأل عنه؛ فهو حاضر في كل شيء، ولا يغيب عنه شيء، وقادر على كل شيء، ومع كل شيء، وهو ليس كمثله شيء!، والأمر فوق العقل والفكر، فليس لك إلاّ أن تُؤمن به؛ وتتبعني في كل ما أقول، ولا تسألني عن الأمر حتى أخبرك به، وكُن بين يَدَي كما يكون الميت بين يَدَي المُغسل!، فإن فعلت ذلك فأنت ناج وسعيد، وإيّاك، ثُمَّ إيّاك من إعمال العقل والتفكير، لأن ذلك من طريقة إبليس اللعين، فإنه لمَّا أّعمل عقله قال: النار أفضل من التراب. ووقع في المعصية وتكبر، فطرده الله من رحمته، ومن الجنة، ولعنه إلى يوم الدين، فإيّاك يا مهران! من العقل والتفكير، ونَفِّذ ما تَسمعه دون سؤال أو نكير، عندئذ ترتاح وتحصل على اليقين، والآن نَم قليلاً واسترح، وتعال مساءً إلى جلسة العلم والدراسة.

ودعا الشيخ له، وأَمَّن المريدون خلفه.

واستمر مهران في حضور جلسات العلم اللدُنّي، وحلقات الرقص.

وذات يوم، كان مهران حاضراً جلسة فقه عند الشيخ،  فقال الشيخ له بعد أن رآه مضطرباً يَتَملمَل: ما الذي يَشغُل بالك يا مهران!؟

فأجاب مهران: مولاي الشيخ! امرأتي حامل في شهرها الثاني، وتتوحم على حلاوة بالسميد، ولا أدري من أين أحصل عليها.

فقال الشيخ: الأمر بسيط يا بني! بعد أن ننتهي من الجلسة؛ لا تذهب، وانتظر حتى ينصرف آخر المريدين.

وفعلاً؛ انتظر مهران انصراف المريدين واحداً تلو الآخر،  ولم يبق إلا هو والشيخ.

فقال الشيخ: أتؤمن بصدق كلامي وأفعالي يا مهران ؟

فأجاب مهران: نعم يا مولاي!

الشيخ: أتشك في صواب قول أو فعل يَصدر مني ؟

مهران: حاشاك من الخطأ، أو الكذب يا مولاي!

الشيخ: ائتني بهذه القصعة الرمادية من الركن حتى أضع لك فيها حلاوة بالسميد, فتأخذها إلى زوجك.

فقام مهران، وناول الشيخ القصعة، ووقف ينظر كيف سيأتي بحلاوة السميد؛ وهي غير موجودة.

ولم ينتظر مهران كثيراً حتى رأى الشيخ يضع القصعة تحته، ويرفع جبته ويقعد عليها، ثمَّ سحب القصعة وأعادها إلى مهران قائلاً: خذ الحلاوة إلى زوجك، بارك الله فيكما.

فأخذ مهران القصعة؛ وهو ينظر إلى الشيخ! هل هو جاد فيما يقول!، ونظر إلى القصعة فرأى فيها مادة طرية تميل إلى لون السميد إذا حَمَّصته النار، واقترب من الاحتراق، فرفع نظره إلى الشيخ باستغراب وذهول!

فقال الشيخ: ألا تؤمن بمقدرتي وصلاحي وولايتي!؟

فأجاب مهران: نعم يا مولاي لا شكَّ في ذلك.

فقال الشيخ: إذن قم! واذهب إلى زوجك، وأطعمها الحلاوة هنيئاً مريئاً!.

فقام مهران، وخرج من زاوية الشيخ، وسار باتجاه بيته وهو يحمل القصعة، وهاله فرار السابلة منه، فاَستَرِق بعض النظرات إلى القصعة، فأصابته قشعريرة، واعتراه شَكٌّ في حلاوة القصعة!، واستنفره العقل، لكنه استغفر الله U، وصرف بصره، وحاول يائساً أن يُشغل ذهنه بشيء آخر ليلهيه عن الفضول والتساؤل!، ولكن هيهات أن يصدع العقل بأمر صاحب غافل،أو أن يتقاعس عن نصرته،فطلب من مهران أن يُمعن النظر!، فلم يستجب مهران لنداء العقل ونهره قائلاً: إليك عني هل يمكن أن يكذب الشيخ، لقد قال: إنّ في القصعة حلاوة. إذاً في القصعة حلاوة!.

ويجرب العقل حيلة أخرى، فيقول لمهران: لماذا لا تتذوقها وتقطع الشك باليقين، أليست الحلاوة لك ولزوجك!؟

فَيُعجب مهران بهذا الرأي، فهو لم يُقلل أو يَشك في صدق الشيخ أو مقدرته.

قبل أن يغير رأيه غمس مهران سبابته في القصعة، ورفعها إلى فمه، فزكمت رائحة كريهة أنفه! رائحة يعرفها جيداً، لا تخفى على أحد! فعاوده الشك، ولكن سرعان ما قال: وهل يُعقل أن يكذب الشيخ!، خاطبه العقل: ليس لك من حَل إلاّ أن تتذوقها ؟ فتقطع الشك باليقين.

فرفع مهران سبابته الملطخة بما في القصعة، ودسها بسرعة في فمه، وأطبق عليها وسحبها بأسرع مما وضعها! ويا للهول! إنه بُراز الشيخ! لقد تَغوّط في القصعة!. رمى مهران القصعة، وأخذ يبصق، ويبصق، وهولا يدري أيبصق البراز من فمه، أم يبصق على الشيخ.

وضحك العقل ساخراً  منه وقال: تستحق ذلك! لأنك لم تعقل وتفهم من النظر، ولا من الشم حتى لعقت البُراز.

وتابع العقل حديثه مُوَبخاً: لقد استغرقت المعرفة منك  ثلاث حواس (النظر والشم والتذوق) حتى استطعت أن تحكم على البراز أنه براز.

فهنيئاً لك بالمثل الذي يقول:

ال…..لا يصَدِّق حتى يأكل ال…..